لا يمكن أن يغيب عن نظرك اسم العلامة التجارية تاتا في الهند، فهي موجودة على الشاي الذي تشربه وعلى سيارات الأجرة «إنديكا» البيضاء التي تجوب حولك والشاحنات التي تعترض طريقك بل بدأت ملاحظتها على مقاهي ستارباكس تاتا.
ووضعت العلامة التجارية على الفنادق في نيويورك وسيدني وعلى الحديد الصلب المصنع في المصانع الأوروبية وسيارات جاغوار الفارهة.
الرجل الذي يقف وراء هذا الاسم العالمي هو راتان نافال تاتا الذي يتم عامه الخامس والسبعين اليوم الجمعة ويتنحى من منصبه كرئيس لمجلس إدارة «تاتا صنز» الشركة القابضة للمجموعة التي تبلغ قيمتها 100 مليار دولار ومقرها في مومباي.
وتتراوح أعمال أكبر شركة عملاقة مملوكة للقطاع الخاص في الهند من صناعة الصلب والفنادق والشاي والسيارات والأسمدة، إلى الطاقة والاتصالات وخدمات المعلومات.
وعندما تولى تاتا رئاسة مجلس إدارة المجموعة التي يبلغ عمرها 123 عاما في عام 1991 من عمه جيه آر دي تاتا، كانت عبارة عن تشكيلة لأكثر من مائتي شركة بعضها تمت إدارته من جانب قادة أقوياء لا تتم مساءلتهم إلا من قبل تاتا الأكبر.
من السهل فهم لماذا يعد “راتان تاتا” شخصية مهمة، والذي سيستقيل من رئاسة مجلس إدارة مؤسسة “تاتا وأولاده” في 28 كانون الأول الحالي. فهذه المجموعة التي يديرها هي أكبر مؤسسة قطاع خاص في الهند وتعادل سبعة بالمائة من سوق الأسهم، وتدفع ثلاثة بالمائة من مجمل ضرائب المؤسسات في الهند وخمسة بالمائة من مجمل ضريبة المبيعات الداخلية.
تستطيع أن تعيش في منزل وتقود سيارة وتجري مكالمة هاتفية وتضيف التوابل لطعامك وتؤمن على نفسك وترتدي ساعة وتسير مرتدياً أحذية وتنعش الجو بواسطة مكيفات الهواء وتبقى في فندق، وكل ذلك يعود لمؤسسات ”تاتا”.
يتصف السيد تاتا بالتأدب والأناقة والتحفظ، ويعتبر ملك مسرح المؤسسات الهندية خلال العقدين الماضيين. وينظر الهنود إليه بنفس الطريقة التي كان الايطاليون ينظرون بها إلى ”جياني انييلي” صاحب شركة فيات، أو الأميركيون تجاه “جي بي مورغان”.
لكن مع ذلك، تبجيل السيد تاتا غريب الى حدٍ ما. فهو ليس مقاولاً مهووساً على غرار عباقرة التكنولوجيا المتطورة في ”بنغالور”. ويعتبر حاكماً من الطراز القديم، إذ ينتمي للجيل الخامس في إدارة مؤسسته التي أنشئت قبل 144 سنة.
وأخذ الوقت الكافي ليتطور في الوظيفة: عندما تولى الإدارة في 1991 عانى لتثبيت نفسه. وحتى اليوم، يتهمه النقاد بكونه ملكياً وكتوماً، وانتقدوه لأنه ترك الذراع التكنولوجية للمؤسسة “تي سي أس” وهي أكثر شركاتها نجاحاً بمفردها.
ولا يمكن اعتبار تاتا أنموذجاً مثالياً في المجال المالي. فبعد موجة من عمليات الاستحواذ خلال العقد الماضي، يعد عائد رأسمالها عادياً. والرئيس الجديد ”سايروس ميستري” والذي يأتي من خارج العائلة (لا يمتلك السيد تاتا أبناء) قد يتوجب عليه إعادة تنظيم شيء ما من هذه المجموعة المبعثرة من الشركات، الى جانب الشركات الناجحة مثل تي سي أس، “جاغوار لاند روفر” وهي شركة صانعة لسيارات فاخرة، هناك أيضا قائمة طويلة من الشركات المترهلة والمثقلة بالديون.
رغم كل ذلك، إلاّ أن مسيرة السيد تاتا تحمل درسين مهمين بالنسبة للهند المنطوية على نفسها والمصابة بهوس الفساد. الأول، تستطيع الهند أن تكسب من العالم الخارجي أكثر بكثير مما ستخسره. والثاني، أن شركةً ما بمقدورها أن تصبح قوة للتقدم.
لم يجد السيد تاتا صعوبةً في التعامل مع العولمة، وتدرّب كمهندس معماري في أميركا. وحتى يومنا هذا، يفضل مناقشة تصميم السيارات مع المهندسين الشباب على قراءة تقارير الإدارة. تلك الدراسة الى جانب مسحة من الإتقان قد خدمته جيدا. وأدرك مبكراً مع انفتاح الاقتصاد الهندي في التسعينيات أن شركاتها سيتوجب عليها رفع مستوى معاييرها، وتضع لنفسها معياراً في أعلى المستويات، وإذا اقتضت الضرورة تشتري المنافسين.
وشملت عمليات الاستحواذ الخارجية، التي قام بها، شركة ”كوروس” البريطانية العملاقة في صناعة الفولاذ، وجاغوار لاند روفر. كانت الشركة الأولى كارثة مالية، أما الثانية فقد نجحت. لكن الحالتان أظهرتا أن الشركات الهندية، والشركات القادمة من الدول النامية الأخرى، تستحق مكانتها في أعلى قائمة الشركات العالمية.
يحب الهنود الادعاء أنهم تعلموا هذا الدرس تماماً. وتشتهر أسماء شركات مثل “ميتال” و”انفوسيس” في مختلف أنحاء العالم. ولكن تبقى الهند بلداَ يضم صناعات محمية كثيرة جدا، بدءاً من التسوق وتعدين الفحم والصحف.
السيد تاتا نفسه لم يكن متحمساً دائما للانفتاح داخلياً بسبب مضارباته في الخارج. لكن مع ذلك كان مناصراً قويا للعولمة.
الدرس الثاني من السيد تاتا يتعلق بالنزاهة. ومع أن مؤسسته لم تتجنب فضائح الفساد بشكل كامل، فقد واجهت قضية تلاعب داخلي في التعاملات في مطلع الألفية ولم تنج من الضجة المتعلقة بقضية منح تراخيص اتصالات سنة 2008. ومن المؤكد في يومنا هذا وفي أي مكان من هذه المؤسسة التي تبلغ قيمة مبيعاتها 100 مليار دولار، سنجد بعض الأعمال غير القانونية. ويتذمر المنافسون من أن الاحترام الحالي لتاتا يخفي ماضياً أمضته في التملق للسياسيين في السنوات التي سبقت وتلت استقلال الهند في 1947. لكن الحقيقة هي إن السيد تاتا قد وقف في السر والعلن ضد الفساد. ويعد موقفه من الطبقة السياسية في الهند موقفاً ينم عن أدب ويقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف. وطالما هاجم ما يدعوه “المصالح الراسخة” – وهو رمز لرأسمالية المحاباة، إذ تحقق المؤسسات أرباحها عبر كسب امتيازات من المسؤولين والسياسيين.
نادراً ما بدت رأسمالية المحاباة على أنها تهديد للهند. وإذا عدنا للتسعينيات، سنجد أن كبرى المؤسسات الهندية-مثل شركات التكنولوجيا وتاتا وأولاده- قد أخذت منحىً استثنائياً لتكون نظيفة بشكل حاد.
وأضفت الشركات العائلية، التي ما زالت تسيطر على نحو 40 بالمائة من أرباح سوق الأسهم الهندية، الطابع المهني على إدارتها وأدرجت نفسها في أسواق الأسهم.
لكن الأمور بدأت تتجه للخلف في العقد الماضي. الأموال الجديدة التي جرى كسبها في قطاعات تعتمد على التأجير، مثل التعدين والبني التحتية، من خلال مشاركة كبيرة للحكومة وقليل من المنافسة الأجنبية تسببت في حدوث بعض فضائح الفساد الكبيرة التي يسيل لها اللعاب.
خسرت عدة شركات عائلية مصالحها بسبب تحسن الحوكمة. ولم يرغب بعضها بالتخلي عن سيطرته عبر إصدار الأسهم، فوصل بها الحال الى تراكم الديون عليها وتواجه مشاكل كثيرة الآن ما جعلها ترهب المصارف الحكومية من أجل إطالة أمد تسديد ديونها بدلاً عن إطفائها. ضاق الرأي العام الهندي بهذه القضية ذرعاً. ولم يتحسن مستوى يقظة وكالات مكافحة الفساد إلا مؤخرا. وأصبح قطاع الأعمال كقاعة مرايا حيث تشير الأصابع الى كل مكان. وانتشر الاشتباه الى حد جعل حتى المسؤولين نظيفي الذمة يفكرون طويلاً قبل منح المشاريع المهمة الى شركات غير فاسدة حتى لا يتهمهم أحد بالمحاباة.مؤسسته.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-8tv