إن نجاح مسيرة التطور والتنمية في أي بلد، مرتبط بشكل أساسي بدقة القراءة والتحليل للمستجدات على الساحة الداخلية والخارجية، وتفعيل التغيرات المناسبة لمواجهة التحديات التي تفرضها هذه المستجدات، بحيث تكون تغيرات ذات تأثير مستقبلي فاعل، يحقق الاستقرار والاستدامة، ولا يضر بالحاضر، بل يعزز مكوناته ويحمي منجزاته.
في هذا السياق، يأتي قرار دولة الإمارات العربية المتحدة، بتحرير أسعار الوقود، وربطها بمعدل السعر العالمي، في إشارة إلى تعزيز نوعي في سياسات الاستدامة وحماية مصادر الثروات، وحفظ حقوق الأجيال القادمة والتخطيط بعيد المدى.
والحقيقة أن قرار تحرير أسعار النفط، كواحد من جملة السياسات الهادفة إلى ترشيد استهلاك الطاقة، وتنويع مصادرها، والحد من استهلاك التقليدي منها لصالح المصادر النظيفة، وتحقيق الاستدامة البيئية وحماية مصادر الثروات، كأحد أهم ملامح وتحديات الدولة الحضارية الحديثة، لم يكن وليد اللحظة، بل إن الدراسات والبحوث التي شهدتها ساحة الفكر الإماراتي الرائد، والتي تتعلق بكيفية تحقيق هذه الأهداف، قديمة قدم مسيرة النهضة الإماراتية التي تأسست على الرؤى البعيدة.
ففي عام 2010، أي بعد عام على تأسيسه، وضع المجلس الأعلى للطاقة في دبي، حجر الأساس لاستراتيجية دبي المتكاملة للطاقة 2030، التي تم إطلاقها عام 2011، أي قبل هبوط أسعار النفط بسنوات. ما يعني أن قرار تحرير أسعار الوقود، هو جزء من سياق خطة بعيدة المدى، عميقة الدراسة والتحليل لتحديات المستقبل.
إذ تدفع هذه الاستراتيجية، ومن خلال خطوات ممنهجة ومرحلية، باتجاه الحد التدريجي من استهلاك الطاقة التقليدية، ودمجها بالطاقة المتجددة والنظيفة.
وتهدف هذه الاستراتيجية إلى خفض الاعتماد على الغاز الطبيعي بنسبة 30 % حتى عام 2030، وزيادة الاعتماد على الطاقة الشمسية، بحيث تصل إلى ما نسبته 1 % من حجم استهلاك الطاقة عام 2020، وترتفع إلى 5 % عام 2030.
وينسحب المخطط ذاته على الطاقة النووية التي تهدف الاستراتيجية إلى الوصول لما يشكل 12 % من حجم الاستخدام عام 2030. كما أن الحد من استخدام الغاز الطبيعي باتجاه زيادة استخدام مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، ينسجم مع رؤية الإمارات لعام 2021، في تبني مفهوم الاقتصاد الأخضر، وتحقيق معايير الاستدامة.
إن تنويع مصادر الطاقة، لا تختلف كثيراً من حيث الجدوى والفوائد عن تنويع مصادر الدخل للناتج الوطني، الذي يتسم به الاقتصاد الإماراتي. فكما يحمي هذا التنوع الاقتصاد الوطني من أزمات ركود أسواق معينة وقطاعات معينة، قد تكون هي المصدر الأساس للدخل، هو كذلك يخفف من الاعتماد على المصادر التقليدية للطاقة، التي قد تتعرض لأزمات متعددة، كتذبذب الأسعار أو الشُح، أو ما ينتج عنها من أضرار بيئية.
تبقى أهمية القرارات السيادية في قدرتها على التحول إلى ثقافات مواطنة، وانتماء والتزام من قبل المجتمع بأفراده ومؤسساته وهيئاته وشركاته. ويتجلى هذا التحول الثقافي، في الالتزام بمسلكيات تنسجم مع قرارات القيادة، في ما يتعلق باختيار المركبات الخاصة الصديقة للبيئة، واستخدام المواصلات العامة، وكذلك ما يتعلق باستخدام الطاقة في البيوت والمرافق العامة والمؤسسات والشركات والمصانع.
إن كل وحدة طاقة يتم توفيرها في هذا السياق، تجعلنا أقرب إلى المستقبل الأكثر استدامةً وأمناً، وكل درهم يتم توفيره، سيزيد في كمية الناتج الوطني، وسينعكس إيجاباً على مدخراتنا واستثماراتنا كمواطنين وشركات ومؤسسات عامة.
إن الآثار الإيجابية التي سيتركها قرار تحرير أسعار الوقود على الاقتصاد الوطني والبيئة ومنظومة الثقافة والسلوك التي تحدد كيفيات الاستهلاك والاسترشاد، تفوق بكثير شعور البعض بأن ترشيد الاستهلاك تضحية غير مبررة، لأنه بكل بساطة، عبارة عن استثمار طويل الأجل بعوائد عظيمة تعود على الكل. وهذه هي الحقيقة التي يترتب علينا نقلها إلى الجمهور بكل وضوح.
في مارس 2014، صدر تقرير عن صندوق النقد الدولي، يتناول فيه مسألة دعم الوقود من قبل حكومات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
جاء في التقرير، وبالنص الصريح، أن دعم الوقود عملية مكلفة، ترهق حكومات البلدان المشار إليها، حيث بلغت تكلفة هذا الدعم 237 مليار دولار، في عام 2011 فقط، أي ما يشكل نسبة 8.6 % من إجمالي الناتج المحلي للمنطقة، أي 22 % من الإيرادات الحكومية، وهذه النسبة تمثل 48 % من حجم دعم القطاع على مستوى العالم.
ويشكل نصيب الإمارات من هذه النسبة، 7 مليارات دولار (29 مليار درهم سنوياً)، وأننا على قناعة أن جزءاً كبيراً من هذا الدعم، يتم هدره من خلال الاستخدام المفرط والمبالغ فيه للطاقة، أليس اقتصاد الدولة ومسيرة التنمية أحق بهذا المبلغ المهدور.
والحقيقة أن دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تناولها التقرير، تشمل بلداناً تعتبر من أكثر بلدان العالم فقراً وحاجة لكل درهم من ناتجها القومي لدعم مشاريع البنية التحتية والإنتاجية، وقطاعات الصحة والتعليم على وجه الخصوص. حيث يؤدي دعم الطاقة إلى تحويل الموارد العامة بعيداً عن الإنفاق الذي يعزز النمو الأكثر شمولاً، كما ورد في نص التقرير.
أما بخصوص المخاوف من أن يكون ذوو الدخل المحدود ضحايا لقرار تحرير أسعار النقود، فقد خصص التقرير مساحة واسعة، ناقش فيها هذه المسألة على النحو التالي:
لقد اعتبر التقرير أن دعم الطاقة لا يوفر إعانة فعالة لذوي الدخل المحدود، بل سيؤثر في الماليات العامة، ويقلل من قدرة الدولة على استمرار دعم قطاعات الصحة والتعليم ومشاريع البنية التحتية، وسيحدث تشوهات عميقة في بنية الاقتصاد الوطني على المدى البعيد، قد تؤدي إلى ضعف الاستثمار في قطاعات الطاقة والقطاعات الأخرى، التي تستخدم الأيدي العاملة والموظفين بكثافة.
بمعنى أن قرار رفع الدعم عن الوقود، سيوفر التمويلات لمشاريع استثمارية قادرة على استيعاب المزيد من الكفاءات والوظائف والأيدي العاملة، وهذه هي الطريقة السليمة لمعالجة الفقر والبطالة، بدل الانشغال بالتخفيف من نتائجها.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-7QH