لم نكن في حاجة إلى قصة ذلك الرجل الذي بنى ثلاث عمارات من نتاج تسول ابنته التي أعلنت العصيان بعد أن فاتها قطار الزواج. لم نكن في حاجة إلى هذه القصة كي ندرك أن التسول لا يعدو أن يكون مهنة امتهنها قطاع من الناس بغرض التكسب السهل وليس تلبية لحاجة ملحة، أو نتاج عجز عن كسب العيش بوسيلة أخرى، حتى لو بدأ الأمر كذلك في بعض الأحيان.
لقد كتبنا غير مرة عن أولئك الرجال الذين يدخلون بيوت الله ليروي كل واحد منهم سبب حاجته، وغالبا في سياق من المرض وفواتير المستشفيات أو بسبب نكبة أحلت به، أو بسبب مرض يعجزه عن تحصيل لقمة عياله، أو مثل تلك المرأة التي أراها منذ سنوات طويلة تقف على باب أحد الجوامع تحدثنا عن “الولايا السبع” اللاتي تريد العودة إليهن بثمن العشاء.
أعرف امرأة أخرى أصادفها منذ خمس وثلاثين سنة تدور في ذات السوق، وهي من فئة اشتهر أبناؤها بامتهان التسول، ولما قلت لها إنني أراها في السوق منذ وعيت فلماذا لم تحقق الاكتفاء، ردت بكل بساطة “إنه كارنا يا خيو”، أي أنها مهنتنا التي لا مهنة لنا سواها!!
لو تتبعت الجهات المعنية حكايات المتسولين ودخولهم وثرواتهم (الأمر الذي يبدو بالغ الصعوبة بالطبع) لوجدنا أنفسنا إزاء بيانات مذهلة، الأمر الذي ينطبق على بعض النسوة اللاتي امتهنّ الطواف على المؤسسات الاجتماعية والمحسنين بغية الصرف على أسرهن، بينما تتراكم ثرواتهن بشكل واضح، من دون أن يؤدي ذلك إلى توقفهن عن البحث عن المال بذات الطريقة، حتى أن أحد الأصدقاء قد روى لي بكثير من الدهشة قصة تلك المرأة العفيفة التي رفضت أخذ معونة بعد سنوات من تلقيها قائلة إن أبناءها باتوا يعملون، وأن هناك من هم أحق بها.
ما يجعلنا نكتب ضد ظاهرة التسول رغم انحيازنا الفطري والديني، فضلا عن الطبقي بحسب التعبير اليساري، للفقراء هو إدراكنا لواقع مجتمعنا الذي ما زال رغم كل شيء متمسكا بطقوس التكافل وإغاثة الملهوف وصاحب الحاجة، ولا شك أن التمدد اللافت لظاهرة التدين قد وفر قدرا كبيرا من الزكوات والصدقات التي تسد حاجة قطاع واسع من الفقراء، دون الحاجة إلى التسول المباشر، فضلا عن غير المباشر، أعني ممارسة النصب عبر إبراز أوراق مزورة تتحدث عن تبرع لجهات خيرية أو إنسانية.
المؤكد أن أحدا يعلم الناس بحاجته لا يمكن أن يبيت جائعا، فهناك ابتداء صندوق المعونة، تليه لجان الزكاة والصدقات في المناطق، والأهم من ذلك كله هو حمل الأغنياء للفقراء داخل الأسر نفسها، وفي سياق من العشيرة والأقارب والجيران، مع العلم أن مؤسسات العون لا تنسق عملها بشكل معقول، فتجد من يقبض من عدد منها في ذات الوقت، والسبب هو أن من يعتاد مد يده لا يلبث أن يمتهن التسول بصرف النظر عن الطريقة، ونحن هنا لا نتحدث فقط عمن يدورون على الأبواب وإشارات المرور ويجوبون الأسواق، بل نضيف إليهم أيضا قطاعات تتفنن في البحث عن جهات العون على نحو “مبدع” فيغدو دخلها أكثر بكثير ممن يتعبون ويشقون من أجل تحصيل لقمة العيش.
أميل شخصيا إلى تشجيع الأصدقاء على دفع جزء من زكاتهم لقطاع من الناس لا تمنحهم مؤهلاتهم وحظوظهم فرصة تحقيق الكفاية في ظل جنون الأسعار، فهم يتعبون ويشقون، لكنهم لا يجنون نهاية الشهر سوى أقل من 300 دينار، وأحيانا دون ذلك، لاسيما حين يعيلون أسرا تزيد عن أربعة أطفال، وهؤلاء هم الذين عناهم رب العزة بقوله “يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف”. مثل هؤلاء يستحقون العون أكثر بكثير ممن امتهنوا التسول.
إن حل ظاهرة التسول لن يتم إلا من خلال وعي الناس وتنبيه العلماء والخطباء للناس كي يكفوا عن الدفع للمتسولين ودفع صدقاتهم لمستحقيها، سواء مباشرة أم من خلال معارفهم، أو من خلال لجان الزكاة والصدقات والأيتام الفقراء الموثوقة.
نعم، لا بد أن يتوقف الناس عن الدفع لممتهني التسول، وأن يدفعوا بدل ذلك لمن يستحقون العون، ومن بينهم أولئك الذين يمشون في مناكبها لكنهم لا يحصلون على ما يكفيهم فيما لا تدفع لهم لجان الزكاة ولا صندوق المعونة، إضافة إلى الدفع للجان الموثوقة التي تتخصص في مساعدة المعوزين من الناس.
بهذه الطريقة ندفع المحتاجين إلى الجهات التي تقدر حاجتهم ونقضي على ظاهرة التسول البائسة، من دون أن نحرم أولئك الذين لا يكفيهم دخلهم رغم جهادهم اليومي، وهم سائر المحتاجين الذين نثق في حاجتهم.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-1wU