بما أن البنوك لا تحتفظ بالمودعات لديها في صورة سائلة فإن النظام المصرفي في أي دولة يصبح عرضة للانهيار إذا ما قام المودعون بسحب مودعاتهم في الوقت نفسه، حيث ستحتاج البنوك في هذه الحالة إلى تسييل أصولها كافة في غضون مدة زمنية قصيرة جدا، وبما أنه من المستحيل أن تتم هذه العملية دون خسارة، فمن المحتمل أن يترتب على ذلك تعثر البنك أو حتى إعلان إفلاسه، وعندما يتعرض أحد البنوك لمثل هذه المخاطر غالبا ما تنتقل العدوى للبنوك الأخرى، وهو ما يعرف فنيا بالذعر المصرفي. لهذا السبب تحتاج البنوك التقليدية، طالما أنها تتلقى ودائع من الجمهور، إلى أن تعمل تحت رقابة البنك المركزي لضمان سلامة النظام المالي.
الوضع في بنوك الظل التي تتكون من مجموعة من الوسطاء الذين يتولون عملية إعادة ضخ الأموال في مقابل أوراق مالية ومستندات قروض في سلسلة من العمليات التي تتم كل منها من خلال مؤسسة متخصصة، مختلف نسبيا، وإن كانت نتيجة عمليات النوعين من البنوك واحدة، وهي تدبير الأموال اللازمة للائتمان. غير أن مصدر الأموال لبنوك الظل لا يأتي من الودائع إنما يأتي من المستثمرين الذين لديهم سيولة ضخمة، لذلك يطلق عليهم مستثمري الجملة، ولقد انتشرت العمليات التي تقوم بها بنوك الظل نتيجة عمليات التحريرDeregulation التي ترتب عليها أن أصبح النشاط المصرفي التقليدي غير مربح.
عمليات بنوك الظل انتشرت إذن نتيجة الرغبة في عدم الالتزام بالقيود التي يفرضها البنك المركزي على السيولة أو على طبيعة الأدوات التي يجب أن تتعامل بها البنوك التقليدية ونسبتها إلى ميزانيتها أو توزيعاتها القطاعية أو الجغرافية إلى آخر هذه القائمة من القيود، وذلك كي تتمكن بنوك الظل من خلق الكثير من المنتجات المالية والديون بصورة أكبر دون أن تخضع لرقابة وسيطرة جهات التنظيم والرقابة في النظام المالي.
بغض النظر عن التسمية فإن بنوك الظل تقدم عملا مصرفيا، حيث تتدفق الأموال من يد من لديهم فوائض إلى الذين يعانون نقصا فيها في مقابل فائدة يدفعها من يقترضون الأموال، وهذا بالضبط ما تفعله البنوك التقليدية، ومن أمثلة هذه المؤسسات صناديق التحوط، أدوات الاستثمار الخاصة، صناديق سوق النقود، وصناديق المعاشات.. إلخ، غير أن الفرق الأساسي بين هذه المؤسسات والبنوك التقليدية هو أن سلسلة عمليات الوساطة التي تقوم بها بنوك الظل تكون في غاية التعقيد، ومن ثم فهي تمارس أنشطة غير مسموح للبنوك التقليدية بها. كما أن بنك الظل ليس في حاجة إلى الاحتفاظ بالاحتياطيات، ولا يحصل على الأموال من خلال المودعات، إنما من خلال عمليات التوريق Securitization، وتدخل معظم الأنشطة التي تتم على النطاق الدولي لبنوك الظل في مجال صفقات التحكيم، التي تتمثل في عمليات شراء الأوراق المالية والأسهم والسندات مع تحقيق معدلات هامش منخفضة نسبيا في هذا الصفقات، لكن ذلك يؤدي إلى تحقيق هذه البنوك أرباحا مرتفعة، نظرا لضخامة حجم الصفقات التي يتم تنفيذها.
لقد تمكنت بنوك الظل من خلال التوريق من أن تخلق منتجات ساعدت على نشر الأعمال المصرفية الخاصة ببنوك الظل التي تستخدم كضمان للعمليات التي تقوم بها. فبدلا من أن تقوم بنوك الظل بقبول مودعات، ومن ثم تخضع نفسها تحت القيود الرقابية والتنظيمية من جانب البنك المركزي للمؤسسات التي تقبل المودعات، فإن بنوك الظل تصل إلى هذه الأموال من خلال عمليات الاقتراض في مقابل الأصول، ومثل هذه الأصول قد تكون رهونا عقارية أو ديون بطاقات ائتمان أو سلعا أو قروض سيارات.. إلخ، ويتم تجميع المنتجات في حزم تباع وتتداول بين المستثمرين، وهناك أشكال مختلفة لهذه الحزم مثل التزامات الديون المضمونة Collateralized debt obligations، والأوراق المالية المدعومة بالأصول Asset-backed securities، والأوراق المالية المدعومة بالرهون العقارية Mortgage-backed securities، وعقود إعادة الرهن Re-hypothecation، حيث يتم نقل الضمان لشخص آخر يتولى الاقتراض في مقابله، على الرغم من أن الرهن يظل فعليا في يد المقرض الأساسي، وهي الأدوات نفسها التي تسببت في نشوب الأزمة المالية العالمية التي يعاني العالم آثارها حاليا.
التوريق إذن طريقة لخلق منتجات لها قيمة وسبيل للحصول على الأموال لبنوك الظل، وهي أموال ضخمة إلى الحد الذي جعل قطاع بنوك الظل أكبر من حيث الحجم من قطاع البنوك التقليدية. فالتوريق وما على شاكله من رهن وإعادة رهن تسمح للأوراق المالية التي تملكها هذه المؤسسات من إعادة النشر مرات عدة كضمانات، ومن ثم جلب المزيد من الأموال إلى نظام بنوك الظل. مع الأسف الشديد، مع انطلاق الأزمة المالية العالمية وجد أن الكثير من هذه الأصول التي تم توريقها لجلب المزيد من الأموال للنظام هي من قبيل الأصول الخردة Junk، أو فاقدة القيمة، ومن ثم فإنه عندما تتعرض إحدى هذه الضمانات للتعثر فإن المالك الحالي لهذه الأوراق المالية يتعرض لخسائر كبيرة، أما إذا كانت هذه الأوراق المالية قدمت من قبل كضمان لعمليات إقراض لاحقة فإن هذه القروض سيتم السعي نحو تحصيلها، وبما أن أساس هذه العمليات هش، فمن الممكن أن يتعرض قطاع بنوك الظل للانهيار، غير أن الأزمة المالية العالمية أثبتت أن مشكلات قطاع بنوك الظل لم تقتصر عليها، إنما امتدت عدواها أيضا للقطاع المصرفي التقليدي، وهي العدوى التي دفع القطاع الحقيقي في الاقتصاد العالمي ثمنا باهظا لها وما زال حتى وقتنا هذا.
من الواضح أن عملية التمويل من خلال التوريق عملية خطيرة ويترتب عليها الكثير من المشكلات، ما يملي ضرورة العمل على تنظيم هذا القطاع الذي يعمل في ظل غياب أي رقابة فاعلة من أجهزة الرقابة المصرفية في الدول، ولذلك أصبحت عملية تنظيم أعمال هذا القطاع والرقابة عليه أمرا حتميا حتى يمكن رفع درجة استقرار القطاع المالي وتجنب تعرضه لهزات من مصادر غير خاضعة لرقابة الأجهزة المعنية.
المشكلة الأساسية في هذه البنوك هي أنها قادرة على التمدد بصور سرطانية، طالما أن هناك فرصة لتحقيق المزيد من الربح وتوليد الدخول من تلك العمليات، ولهذا السبب فإن بنوك الظل غالبا ما تكون مرشحة لأن تولد فقاعات كبيرة مسمومة تنتظر الانفجار. لقد قدرت بعض المصادر حجم بنوك الظل في الولايات المتحدة قبل الأزمة بنحو 24 تريليون دولار، وقد كان من المنتظر أن يترتب على الأزمة المالية تراجع أنشطة هذه البنوك. غير أنه صاحب الأزمة المالية تشديد الرقابة على البنوك التجارية وقواعد العمل بها، وهو ما أدى إلى تراجع معدلات الأداء للبنوك التقليدية، الأمر الذي دفع إلى هروب الأموال من البنوك التقليدية إلى بنوك الظل سعيا وراء أعلى الأرباح ولتجنب القواعد الصارمة للنظم الرقابية على البنوك التقليدية، ووفقا لتقديرات مجلس الاستقرار الماليThe Financial Stability Board وهو مؤسسة دولية لمراقبة النظام المالي العالمي، فإن حجم قطاع مصارف الظل على مستوى العالم بلغ 60 تريليون دولار في تشرين الأول (أكتوبر) 2011. هذا الرقم يعادل الناتج المحلي الإجمالي للعالم كله تقريبا، وهو ما يعني أنه أصبح من الواضح أن الأزمة المالية العالمية لم تؤثر في حجم العمليات التي تتم في هذا القطاع المصرفي في العالم، بل إنه وفقا للمجلس فإن حجم عمليات بنوك الظل يزيد حاليا على مستوياتها قبل الأزمة، الأمر الذي يعني أن هذه البنوك ما زالت تحمل للعالم المخاطر نفسها التي أدت إلى اشتعال الأزمة المالية العالمية الحالية، لذلك تجري محاولات محمومة في العالم حاليا لتنظيم وتقنين عمليات بنوك الظل، وذلك لتأمين النظام المالي في العالم من مخاطر انتشار المنتجات المالية لهذه البنوك، التي تتصف بأنها غير مؤمنة بشكل جيد.
*نقلا عن الاقتصادية