قصة حياة انديرا غاندي التي رفضت ان تكون مجرد امرأة تغسل الثياب لتصبح رئيسة لوزراء حكومة بلادها الهند ثم تموت غيلة من قبل أحد حراسها الشخصيين.
من هي انديرا غاندي ؟
ولدت انديرا في 19 نوفمبر من عام 1917 في عائلة شهيرة هي عائلة جواهر لال نهرو احد قادة الحركة الوطنية الهندية المناضلة ضد الاستعمار الانجليزي. وخارج غرفة المستشفى كان هناك جمهور كبير ينتظر الحدث السعيد ويأمل ان يكون المولود ذكراً! ولهذا السبب تأخرت جدتها في ابلاغ النبأ الى مجلس الرجال حيث كان يوجد والد الطفلة وجدها وعشرات الشخصيات الاخرى. فليس من السهل عليك ان تعلن للجميع في المجتمع الشرقي ان المولودة أنثى لا ذكر..
في الواقع ان والدها كان شخصاً مستنيراً وعقلانياً ولم يمكن يزعجه اطلاقاً ولادة بنت له. ولكن المجتمع الهندي لم يكن متقدماً الى نفس الدرجة التي وصلها قادته. وقد كتب لها والدها رسالة فيما بعد يقول فيها: في العام الذي ولدت فيه اندلعت الثورة الروسية على بعد آلاف الكيلومترات من هنا.. لقد ولدت يا انديرا في عصر الاعاصير والاضطرابات. وراح يحلم لها بمستقبل غامض، عظيم، اسطوري.. ولم تكذب الايام توقعاته، فلم يتح لأي امرأة هندية ان تصل الى المرتبة التي وصلت اليها ابنته.
فيما بعد ارسلها والدها لكي تدرس في الجامعة التي اسسها شاعر الهند الأكبر: طاغور. وقد كتب رسالة خاصة الى سكرتيرة الشاعر يقول فيها: «لي نظرة خاصة عن التربية. لا أريد لابنتي ان تكون مجرد امرأة تغسل الثياب وتنظف البيت.. اتمنى ان تدخل معترك الحياة العامة كأي شخص آخر، كأي رجل. ولهذا فمن المفضل ان تشتغل في معمل ما لسنة كاملة، مثلها في ذلك مثل بقية العمال والعاملات. لا ينبغي ان تشعر بأنها متميزة عن الآخرين. فالعمل جزء لا يتجزأ من التربية وهو الذي يشكل الشخصية».
في الواقع ان نهرو الذي كان ينتمي الى عائلة ارستقراطية كبيرة لم يكن يثق بالجامعات الهندية ولا بمستواها. وحدها الجامعات البريطانية كانت تعجبه. وكان يريد لابنته تربية صارمة لا متساهلة ولا كسولة. وعلى الرغم من ان نهرو كان يبجل الشاعر والفيلسوف طاغور كثيراً الا انه لم يكن يثق بجامعته.
ولكنه رضي بأن تذهب انديرا الى هذه الجامعة لفترة من الزمن قبل ان يتاح لها مغادرة البلاد للدراسة في احدى الجامعات الاوروبية. فيما بعد سوف تقول انديرا غاندي ان جامعة طاغور كانت اهم جامعة درست فيها، وانها تعلمت منها اشياء لم تجدها في اي جامعة هندية او أوروبية اخرى.
كان طاغور قد اسس مدرسته (او جامعته) عام 1951 وخلع عليها اسم «مقر السلام». وكان يحاول ان يقيم مصالحة معقولة بين الثقافة الهندية والثقافة الاوروبية. وكانت الجامعة تشمل ثلاثة اقسام: قسم الفنون الجميلة، وقسم الموسيقى، وقسم الثقافة الهندية. وكان الاساتذة يشجعون التلامذة على استخدام ايديهم واطلاق العنان لمواهبهم الفنية. والأجمل من ذلك هو ان الدروس كانت تعطى في الهواء الطلق لا بين جدران الغرف. وكانت المنطقة جميلة جداً بالغابات والانهار. ضمن هذا الجو عاشت انديرا غاندي بعض الوقت وكبرت وترعرعت. ولذلك تركت المدرسة في نفسها ذكرى لا تنسى. وفور وصولها الى المدرسة كتبت الى والدها رسالة تقول فيها: «أخيراً وصلنا الى المنطقة. كل شيء جميل هنا ومليء بالفن والغابات الوحشية».
عندما وصلت انديرا الى الجامعة المذكورة كان عمر طاغور ثلاثة وسبعين عاماً. وكان له انصار عديدون يحبونه ويبجلونه سواء في جهة الهند ام في جهة الاوروبيين. كان يحظى بسمعة كونية، وقد نال جائزة نوبل للآداب عام 1913. وحتماً كان أول شرقي ينالها. وقد وصفته انديرا غاندي فيما بعد قائلة: «كان ضعيف البنية، محني الظهر، بالاضافة الى شعره المتموج الطويل المنسدل على اكتافه. وكان ذا لحية كثيفة وطويلة ايضاً.. وكانت نظراته ثاقبة وعميقة. كان جميلا اذا ما تطلعت اليه عن كثب.. وكان يجسد صورة الشاعر الرومانطيقي بامتياز».
ثم تتحدث المؤلفة كاترين فرانك عن علاقة انديرا بوالدها الزعيم الوطني المشهور جواهر لال نهرو وتقول: «لم يكن راضياً عن زواجها من فيروز غاندي الذي التقت به كزميل دراسة في انجلترا. وقد مات شيء في علاقتهما منذ ذلك الوقت. كان نهرو يعتقد انها تزوجت لكي تنحسب من الحياة العامة والمسئولية. وهذا شيء يؤلمه جداً لأنه كان يحضر ابنته لخدمة الوطن.
ولكن بعد موته عام 1964 أحست بفراغ هائل ووحدة كبيرة. شعرت بأنها اصبحت يتيمة لأول مرة. فقد كان والدها يمثل الحضور الأكبر في حياتها. وبما ان زوجها كان قد مات قبله فإنها اصبحت الآن ليس فقط أرملة وانما يتيمة. لا ريب في انه بقي لها اولادها الستة وبخاصة راجيف الذي سيصبح فيما بعد رئيساً للوزراء ايضاً مثل امه وجده. ولكن اولادها كانوا يدرسون في انجلترا آنذاك ولم تكن تراهم الا قليلاً.
وبعد موت والدها مرضت نفسياً وشعرت بالكآبة العميقة. وهو نفس الشعور الذي طغى عليها بعد وفاة زوجها الشاب، وإن كانت الصدمة الأولى اشد صعوبة. لم تكن تتوقع ان والدها بشخصيته القوية جداً سوف يموت! حقاً لقد خلف وراءه فراغاً كبيراً. بعدئذ عرض عليها قادة حزب المؤتمر ان تخلفه في رئاسة الوزارة، ولكنها رفضت واعتذرت. وكانت حجتها انها ليست مؤهلة للمنصب حتى الآن. فلا تزال التجربة تنقصها، ولم تكن قد تجاوزت السابعة والأربعين بعد.. وبالتالي فلا يزال الزمن أمامها.
والحق ان هذا الزمن لم يدم طويلاً. فبعد سنتين فقط، أي عام 1966، انتخبت كرئيسة للوزراء. وشعر الجميع عندئذ بأنها ورثت والدها، بل انه تجسد فيها شخصياً. وقد اختارتها مجلة «تايم» الأميركية كشخصية العام ووضعت صورتها على غلافها بالألوان، وكتبت تحتها تقول: «الهند المضطربة بين يدي امرأة!».
في الواقع ان وصول انديرا غاندي الى رئاسة الوزارة في الهند تزامن مع ظهور حركات تحرير المرأة في الغرب. وعلى الرغم من انها قالت انها ليست امرأة متحررة على الطريقة الغربية، إلا ان صحافة الغرب النسائية راحت تستخدم صورتها كشعار لها. وراحت المجلات النسائية تقول: اذا كانت انديرا غاندي تحكم بلداً كبيراً كالهند فهذا يعني ان المرأة قادرة على كل شيء.
وفي عام 1971 جرت انتخابات عامة جديدة في الهند. وكانت اضخم انتخابات ديمقراطية تشهدها الهند في تاريخها كله. فقد صوت فيها ما لا يقل عن (150) مليون مواطن ومواطنة. وكانت النتيجة نجاحاً ساحقاً لانديرا غاندي وحزبها. واصبحت اقوى رئيس وزراء شهدته الهند منذ الاستقلال. والواقع انه حتى والدها لم يحظ بكل هذه الصلاحيات والسلطات.
ثم تتحدث المؤلفة عن السنوات الاخيرة من عمر انديرا غاندي وتقول: «في بداية الثمانينيات كانت الهند مهددة بالتفكك والانقسام. فالصراعات بين الهندوس، والسيخ، والمسلمين، والمسيحيين كانت في اوجها. وكانت هناك اقاليم عديدة تهدد بالانفصال عن الدولة المركزية. وكلما شددت انديرا غاندي من قبضتها على الحكم وقوت النظام المركزي في نيودلهي، كلما زادت الانقسامات في الاقاليم البعيدة.
وكان الكثيرون يعتبرون انديرا اصل المشكلة، وفي ذات الوقت المنقذ الوحيد. ففي عام 1984 جرت انتخابات عامة في البلاد وانتخبت انديرا للمرة الرابعة رئيسة للوزراء. وهذا ما لم يحصل لأي شخصية اخرى في الهند. حقاً لقد اصبحت انديرا الملكة المتوجة.. وعندما سألها احد الصحفيين عن مشاعرها وقد اصبحت زعيمة الهند مرة اخرى، أجابت: «كنت دائماً زعيمة للهند.. ولكن ماذا بعد الوصول الى القمة؟ يخشى من الانحدار والسقوط».
كان هناك حدث خطير يخبئه لها القدر: ألا وهو مقتل ابنها الكبير «سانجي» في حادث طائرة فوق نيودلهي. ومن المعروف انها كانت تحضره لخلافتها في رئاسة الحكومة. وكان وقع الخبر عليها كالصاعقة. فبعد ان فقدت زوجها ووالدها تفقد الآن ابنها وهو في عز الشباب.. والبعض يقول ان الامر ليس حادثاً وانما مسألة اغتيال مدبرة من اجل زعزعة أمه وتدميرها نفسياً.
عندما حصل الحادث كان راجيف غاندي وزوجته سونيا وأولادهما يزورون عائلة الزوجة في ايطاليا. ومعلوم ان زوجته سونيا كانت ايطالية الاصل. ولكن عندما سمعوا بنبأ مصرع سانجي ركبوا أول طائرة وعادوا الى الهند لحضور الجنازة. بعدئذ سوف يخلف راجيف أخاه في القيادة السياسية لكي يصبح رئيساً للوزراء يوماً ما.
ونظمت انديرا غاندي لابنها الغالي جنازة مهيبة شاركت فيها الهند كلها. وكانت تشبه جنازة المهاتما غاندي نفسه، وكذلك جنازة زوجها فيروز غاندي ثم والدها نهرو. وكل ذلك تم على نفقة الحكومة على الرغم من معارضة ابنها الثاني راجيف لذلك. فهل دخلت انديرا في مرحلة الفساد واستغلال المال العام لأغراض شخصية كما يحصل للعديد من رجالات السلطة؟ خصومها يزعمون ذلك، ولم يتوانوا عن استخدامه ضدها. والواقع انهم وجدوا في جيب ابنها المتوفى رقم حسابه في البنوك السويسرية.. وأخذت الغيوم السوداء تتجمع في الأفق السياسي لزعيمة الهند.
وتقول سونيا، زوجة ابنها راجيف، ان انديرا غاندي جمعت العائلة مرة وقالت لهم بكل جدية: «ربما اغتالوني قريباً، واذا ما حصل ذلك فإني أود ان تنظموا لي جنازة على النحو التالي». ثم اعطتم التعليمات.. بل وراحت تخشى من ان يلجأ اعداؤها الى تصفية احفادها. ولذلك نصحتهم بألا يلعبوا خارج أسوار البيت.
ثم تردف المؤلفة قائلة: لقد اصبح جميع من حولها يشعرون بأن حياتها في خطر. وعندئذ حاول وزير الدفاع ان يقنعها بتغيير حرسها الشخصي فيصبحون من الجيش بدلاً من الشرطة. ولكنها رفضت وقالت له: انا رئيسة حكومة ديمقراطية منتخبة عن طريق الشعب ولست ديكتاتوراً وصل الى السلطة عن طريق انقلاب عسكري. فلماذا تريدني ان اخاف على نفسي؟ ولكنها على الرغم من ذلك قبلت بإضافة عناصر حرس جديدة.
وطلب رئيس المخابرات عزل جميع الحرس الذين يعود اصلهم الى طائفة السيخ لأنهم لا يؤتمنون.. ولكن على الرغم من كل هذه الاجراءات والاحتياطات فإن مصير انديرا كان لا يزال مهدداً. فرئيس المخابرات ما كان يتوقع ان تجيء الضربة من داخل بيت انديرا غاندي.. وهكذا قتلت من قبل حرسها الشخصي بالذات وقبل ان تغادر منزلها بدقائق معدودات. وانطلق عليها المثل القائل: «من مأمنه يؤتى الحذر».