مجلة مال واعمال

المكاسرة والغلبة في السوق النفطية

-

12

يشير العديد من المراقبين الى أننا في خضم تغير “تاريخي” للأدوار التي تحكم سوق النفط بعد انهيار الاسعار والتي فقدت أكثر من 50 % من قيمتها منذ صيف العام الماضي؛ اذ هوت من 115 دولارا للبرميل في حزيران (يونيو) الماضي الى أقل من 50 دولارا للبرميل مع مطلع شهر كانون الثاني (يناير) 2015.
ولعقود عديدة خلت تمكنت المملكة العربية السعودية – تعاضدها الدول الخليجية الاخرى – من لعب ما يعرف بدور”المنتج المرجح” نظراً لما تتمتع به من طاقة إنتاجية فائضة الامر الذي يجعلها قادرة على زيادة الانتاج او تخفيضه بما يمكن الاسواق العالمية من التكيف مع الفائض او النقص الموجود وصولا الى تحقيق التوازن المطلوب.
بيد ان السعودية “تنازلت” عن هذا الدور بعد اجتماع أوبك في العاصمة النمساوية فيينا يوم 27 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي و”سلمت المسؤولية” الى قوى السوق لتحديد الاسعار. لم يلق قرار أوبك الابقاء على سقف الانتاج دون تغيير عند 30 مليون برميل يومياً الاجماع – بخلاف اجتماعات أوبك السابقة – اذ عدته ايران بمثابة حرب أسعار، في حين ناشدت فنزويلا الدول الاعضاء العمل على تخفيض الانتاج دون ان تلقى أذنا صاغية.
وقد أفضى ترك أسعار النفط الخام تتحدد وفق قوى السوق الى ولادة استراتيجية جديدة للطاقة لدى السعودية ونظرائها الخليجيين وتنبئ هذه الاستراتيجية كذلك بانتقال دور المنتج المرجح الى دولة لم تخطر على البال قط الا وهي الولايات المتحدة حسب رؤية المحلل النفطي المعروف Daniel Yergin (صاحب كتاب “الجائزة” الذائع الصيت الفائز بجائزة Pulitzer).
ان الاستراتيجية السعودية الجديدة ستستمر على خطى الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز مع انتقال السلطة السلس للملك سلمان بن عبدالعزيز، ومن الآن فصاعداً فإن الاسعار العالمية ستحددها التغييرات في الانتاج الاميركي جنباً الى جنب مع الانتاج السعودي والخليجي.
ان الولايات المتحدة كانت وحتى وقت قريب الدولة المنتجة والمصدرة الاولى في العالم “ومنتجها المرجح”، بيد ان هذا الدور أخذ بالاضمحلال تدريجياً بعد ان بلغ الانتاج ذروته عام 1970 عند 9.6 مليون برميل يومياً.
ومنذ ذلك التاريخ أصبحت الولايات المتحدة تعتمد على وارداتها الاجنبية لمقابلة استهلاكها المحلي المتعاظم. وبحلول عام 2008 أنخفض انتاجها المحلي بحوالي 50 % مقارنة بمعدلاتها السائدة عام 1970؛ اذ لم تزد على 5.5 مليون برميل يومياً.
وشهد العام ذاته وصول برميل النفط الى معدلات قياسية؛ اذ تجاوزت عتبة لـ 147 دولارا للبرميل مع تزايد المخاوف من ان الانتاج النفطي في العالم قد بلغ ذروته وهو آخذ في التراجع ما أضفى مصداقيته على انصار نظرية ما يعرف بـ”ذروة النفط Peak Oil Theorist”.
إزاء هذه المعطيات بدأت تلوح في الأفق ثورة في الانتاج غير التقليدي للنفط والغاز في الولايات المتحدة عزز منها تكاتف تكنولوجية التكسير الهيدرولكي Hydraulic Fracturing جنباً الى جنب مع ما يعرف بتكنولوجية الحفر الأفقي؛ اذ بخلاف الحفر العمودي الذي كان سائداً حتى وقت قريب فإن التقانة المذكورة تمكن من الوصول الى المكامن البترولية التي كانت موصدة في السابق وعصية على التنقيب.
وكان من نتائج ذلك النمو المطرد في انتاج الولايات المتحدة من الوقود الصخري. وبحلول عام 2014 على سبيل المثال، زاد انتاج الولايات المتحدة بنسبة 80 % مقارنة بمعدلاتها عام 2008.
ان هذه الزيادة في الانتاج البالغة 4.1 مليون برميل يومياً تفوق انتاج كل دولة من الدول الاعضاء في أوبك على حدة (باستثناء السعودية). إن انتاج الولايات المتحدة اليوم يقارب انتاجها لعام 1970 – وهو الاعلى تاريخياً – اضف الى ذلك علينا ان لاننسى الزيادة التراكمية في انتاج الرمل الكندي Tar Sand (من حقول البرتا) والبالغة مليون برميل يومياً. ونتيجة لهذه التطورات فإن “وهّم” الاستقلال الطاقوي اصبح اقرب الى الواقع – على الاقل في أميركا الشمالية.
وساهمت هذه “الثورة” كذلك في دعم الاقتصاد الاميركي من خلال خلق الوظائف وجذب أكثر من 100 مليار دولار من الاستثمارات الجديدة. ولابد من التأكيد هنا على ان الاسواق العالمية للنفط لم تشهد ولفترة طويلة زيادة في الانتاج بقدر الزيادة الحالية والتي تعيد الى الاذهان حقبة الثمانينيات من القرن الماضي والتي شهدت وصول امدادات جديدة من بحر الشمال والمكسيك وألاسكا والتي ترتب عليها خلق “فائض” في الامدادات والتي ادت الى انهيار الاسعار الى 10 دولارات للبرميل (بحلول عام 1986/ 1987).
حتى وقت قريب تضافرت العديد من العوامل التي حالت دون الانهيار في الاسعار منها الزيادة المطردة في الاستهلاك في الدول النامية وعلى رأسها الصين (والهند)، ومن العوامل الاخرى الاضطرابات في ليبيا وجنوب السودان ودول نفطية أخرى والتي ادت الى تخفيض الامدادات كما ان الاسواق فقدت ما يقدر بمليون برميل يومياً جراء العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران على خلفية ملفها النووي. بيد أنه بحلول منتصف عام 2014 تغيرت الصورة بشكل جذري؛ إذ بدأ النمو في الناتج المحلي الاجمالي العالمي بالتراجع.
وشهدت دول منطقة اليورو انكماشاً كبيراً في نشاطها الاقتصادي، أما الصين حيث عمل النمو الكبير فيها على الطلب على النفط منذ عام 2004 بتوفير الزخم اللازم للنمو، بيد ان الاقتصاد الصيني شهد تراجع معدل الاستهلاك فيها. الا ان العامل الذي كان حاسماً في انهيار الاسعار هو الزيادة الكبيرة في الانتاج الليبي (800 ألف برميل يومياً) خلافاً لما كان متوقعاً، لاسيما وان البلاد في أعتاب حرب أهلية مع حكومتين متنافستين احداهما في طرابلس (اسلامية) والثانية في طبرق (وهي الحكومة المعترف بها دولياً).
وكان الرأي السائد في حينه هو أن أوبك ستتدخل لتخفيض سقف الانتاج (البالغ 30 مليون برميل/ يومياً) لرفع الاسعار الا ان السعودية والدول الخليجية الاخرى نأت بنفسها عن ذلك؛ اذ بدا أنها عاقدة العزم على المحافظة على حصتها السوقية وان أي تخفيض سيهدد مكانتها العالمية لصالح دول منتجة اخرى خارج أوبك.
ووفقاً لهذه الرؤية، سيتم تخفيض انتاج النفط المنخفض التكلفة لحساب انتاج نفطي باهظ التكلفة.
وكانت السعودية ونظراؤها الخليجيون ينظرون “بعين الريبة” الى المنافسة ليس من قبل النفط الصخري الاميركي فحسب بل كذلك الى منافسة الرمل الكندي والامدادات الروسية والبرازيلية وامدادات وسط آسيا وأفريقيا ناهيك عن الانتاج النفطي في المياه العميقة (في المغمورة) Offshore، والاهم من كل هذا فإن انظار دول الخليج كانت شاخصة نحو دول الجوار (الجارتين اللدودتين) العراق وايران. اذ لم تجد مسوغ يدعوها للتخلي عن حصتها السوقية لصالح العراق الذي يشهد زيادة كبيرة في انتاجه. كما ان هذه الدول لا ترغب في فسح المجال للمنافس الازلي ايران؛ حيث تبلور رأي لدى دول الخليج مفاده ان الولايات المتحدة بصدد عقد “صفقة تاريخية” مع الجمهورية الاسلامية ما يعني عودة ايران الى الساحة النفطية بقوة.
ان الهبوط في الاسعار الذي خبرته الاسواق العالمية يفوق بكثير ما كان متوقعاً حتى بين الدول الخليجية المنتجة الرئيسية، وقد عملت الشركات النفطية العملاقة حول العالم على تقليص الانفاق وتأجيل تنفيذ العديد من المشاريع، بل قد يتم الغاء بعضها.
وتأمل السعودية ان يفضي انخفاض الاسعار الى تحفيز النمو في الاقتصاد العالمي والذي سيعمل بدوره على زيادة الطلب على النفط الخام.
وبمقدور السعودية (والدول الخليجية) امتصاص صدمة الانهيار في الاسعار – على المدى القصير – نظراً لما تراكم لديها عبر السنين من احتياطي اجنبي؛ اذ تزيد ارصدة الثروة السيادية السعودية على سبيل المثال على 730 مليار دولار.
بيد ان ذلك لاينسحب بالضرورة على العديد من الدول المصدرة الاخرى، ففنزويلا المنتج الاكبر في امريكا اللاتينية تعاني من الاضطرابات السياسة ومن الانهيارات المالية بالرغم من وعود الرئيس مادورا الابقاء على الانفاق الاجتماعي والدعم دون تغيير. اما روسيا الاتحادية فتجد نفسها مجبرة على التعامل لا مع انخفاض الاسعار؛ اذ تمثل صادراتها البترولية أكثر من 40 % من عائداتها الحكومية بل عليها ان تتعامل كذلك مع تداعيات الازمة الاوكرانية وما ترتب عليها من عقوبات اقتصادية قد تجر البلاد الى حافة الركود الاقتصادي.
اما نيجيريا وهي الدولة الافريقية الاولى من حيث حجم الاقتصاد والتعداد السكاني – فتجد نفسها هي الاخرى في “عين العاصفة”؛ اذ يمثل القطاع النفطي فيها 95 % من العائدات التصديرية و75 % من الايرادات الحكومية.
ويأتي التراجع في أسعار النفط في وقت هي أحوج اليه الى الاموال؛ اذا ما أريد مواجهة تنظيم “بوكو حرام” الاسلامي المتشدد.
وبشكل عام فإن الهبوط الحالي في الاسعار سيترتب عليه انتقال ما بين 1.5 ترليون – 2 ترليون دولار أميركي من الدول المصدرة للنفط الى الدول المستوردة له.
ويأتي على رأس قائمة المستفيدين من هذا التطور اليابان والصين اللتان تعتمدان بشكل كبير على دول الخليج لتلبية حاجاتها المحلية وبنسب تتراوح بين 60 –  80 % من إجمالي وارداتهما الكلية.
وفي منطقتنا العربية كان انخفاض أسعار النفط بمثابة “بشرى” للمستهلك في لبنان ومصر، في حين لاقى استحسانا كبيرا ورضى واسعين لدى المواطن في الاردن مع التخفيضات التي اجرتها وزارة الصناعة والتجارة في الشهرين الماضيين التي طالت المشتقات النفطية بكافة انواعها، الا ان التخفيض الابرز كان لاسطوانة الغاز (للطبخ المنزلي) – وزن 12 كغم – اذ انخفضت من 10  الى 8 دنانير للأسطوانة الواحدة، ما رسم البهجة على وجوه ربات البيوت. كما ان انخفاض الاسعار، ونشير هنا الى خام متوسط غرب تكساس WTI، ارخى العبءعن كاهل المستهلك الاميركي لاسيما مع الانخفاض في أسعار الغازولين في محطات تعبئة الوقود حيث ولع المواطن الاميركي بالسيارات الفارهة الرباعية الدفع ذات الاستهلاك الكبير.
بيد ان السؤال الجوهري هنا هو ما هو مصير الوقود الصخري يا ترى في ظل تراجع الاسعار الى أقل من 55 دولاراً للبرميل ما يجعل الانتاج الصخري غير مجد اقتصادياً. الا ان الانتاج الصخري رغم ذلك وحسب تقديرات متاحة تشير الى زيادة في الانتاج تصل الى 500 ألف برميل يومياً خلال النصف الأول من عام 2015، ومع حلول منتصف العام فإن الانتاج مرشح للتراجع اذا ما استمرت الاسعار الحالية على معدلاتها.
الجدير بالملاحظة التأثر الواضح لصناعة النفط الصخري في الولايات المتحدة جراء انخفاض متوسط خام غرب تكساس WTI الى مستويات متدنية اذ فقدت أكثر من 60 % من قيمتها منذ مطلع الصيف الماضي.
وتشير البيانات المتاحة، على سبيل المثال الى تراجع عدد منصات الحفر Oil Rigs بنسبة تزيد على 24 %، وهو ما يعادل فقدان 389 منصة والتي بلغت اوجها في الاسبوع الاول من تشرين الأول (اكتوبر) الماضي عند 1609 منصة. وكما هو معروف فإن عدد المنصات يعد مؤشرا مهما للمعروض من الامدادات (وهناك تناسب طردي في ذلك)، وهي بالتالي تعد مؤشرا مهما لتطور إنتاج النفط الصخري للأشهر القليلة القادمة.
خلاصة القول، يتبلور اليوم رأي لدى المراقبين مفاده بأن النمو في الاقتصاد العالمي المحفز الرئيسي للطلب على النفط سيأخذ بالتعافي التدريجي مع مؤشرات تفيد بأن اقتصادات منطقة اليورو أخذت تتنفس الصعداء بعد التوصل الى حل وشيك للمعضلة اليونانية – التي تهدد بالخروج منه – ناهيك عن التوقعات بمعدلات نمو جيدة في الصين والولايات المتحدة – الدولتين الأكبر استهلاكاً للطاقة في العالم – وسيعني ذلك عودة ارتفاع الاسعار – واذ كان دون عتبة لـ 100 دولار للبرميل الى نطاق يتراوح بين 65 – 75 دولاراً للبرميل وهو سعر يلائم الاستمرار في انتاج النفط الصخري كما يمكن الدول الخليجية – نظراً لما تتمتع به من طاقة فائضة – من العودة الى ممارسة دورها القديم / الجديد كمنتج مرجح يعول عليه في استقرار السوق.