للشركات التي لا يزال مؤسسوها يديرونها سحرٌ خاص؛ وهذا ليس مجرد حدس. فقد تضاعفت أسهم الشركات العامة، التي تعمل منذ 1990 ولم يزل مؤسسوها جزءاً من فِرَقِها الإدارية، ثلاثة أضعاف. وفي كتاب سيصدر لاحقاً ومقال نُشر مؤخراً في مجلة “هارفارد بزنس ريفيو”، حدّدتُ وزميلي المؤلِّف المشارك كريستوفر زوك مزايا “ذهنية المؤسِّس”، وبينَّا كيف تستطيع كل المؤسسات تعزيز تأثيراتها المنشِّطة، حتى المؤسسات التي تقاعد مؤسسوها قبل وقت طويل. ونعتقد أن أفضل أمل للشركة في الحفاظ على نمو مربح هو ببقائها مخلصة للخصائص الطبيعية التي تتمتع بها فِرَق إدارييها المؤسسين العظماء.
لذهنية المؤسِّس ثلاثة مقوِّمات: فهي تستلزم أن ترى الشركات نفسها ثائرة في مجال الأعمال، تقاتل بالنيابة عن عميل لم ينَل الخدمة التي يستحقها؛ وينبغي أن تكون الشركات أيضاً مهووسة بالمكتب الأمامي الذي تلتقي فيه الشركة بالعميل؛ وأخيراً، ينبغي أن تُعزِّز الشركات ذهنية مالكها، ما يبقيها سريعة الحركة، وجريئة، ومشربة بِحِس عميق بالمسؤولية لتحقيق نتائج بعيدة المدى. وفي إطار بحثنا الرامي إلى فهم هذه الصفات، أجرينا مقابلات مع أعداد كبيرة من مؤسسي الشركات، وقدَّمنا عشرات ورش العمل مع رواد شبكة “فاوندرز مينتاليتي 100” (Founder`s Mentality 100)، وهي شبكة شركات سريعة النمو، غالباً ما يديرها مؤسسوها. وأعطانا جميع المؤسِّسين تقريباً دروساً مفيدة، إلا أن ثلاثة رؤساء تنفيذيين بالتحديد جسَّدوا المزايا التي تجعل ذهنية المؤسِّس قوية إلى هذه الدرجة.
روبي بروزن والمهمة الثائرة
عام 1987، اصطحب مهندس صوتيات برتغالي يُدعى فرناندو ديورايت صديقه رجل الأعمال الجنوب أفريقي روبي بروزن إلى مطعمٍ صغير للطلبيات الخارجية في إحدى ضواحي مدينة جوهانسبورغ. ووجد بروزن الدجاج الذي يُعِدّه ذلك المطعم لذيذاً إلى درجة دفعته إلى القيام بخطوة جذرية: اشترى المطعم، وغيَّر اسمه إلى “ناندوز” (Nando`s) على شرف صديقه فرناندو، ووضع خططاً للتوسع. ومنذ ذلك الحين، أصبح “ناندوز” من أنجح سلاسل المطاعم التي تقدم الدجاج في العالم، بعد افتتاحه أكثر من 1,200 مطعماً في 23 بلداً.
فما السر وراء نجاح بروزن في عالم لا تنقصه قطع الدجاج؟ اجتمع بروزن وموظفوه على مهمة ثائرة، إذ كانوا يومياً يختارون بوعي أن يكونوا بالقدرات الاستثنائية القليلة التي تُمكِّنهم من تسليم منتَج أفضل، أو خدمة أجود للعملاء. فالمؤسسون العظماء يركزون بلا هوادة على هذه القدرات، ويتقبلون حقيقة عجزهم عن أن يكونوا الأوائل في العالم في كل شيء، وإنما في الأشياء التي تهم فعلياً فقط.
هذا البروز “الشائك” هو السر في البقاء في إطار المنافسة، إلا أنه ليس سهلاً. فلإرضاء الجميع، وتلبية كل احتياج، وتأمين خطة بديلة للنجاح، قام العديد من الرؤساء التنفيذيين للشركات بتوزيع الموارد بكل ديمقراطية بالتزامن مع نمو شركاتهم، ففقدوا مكانتهم البارزة بسبب التكاليف التي تكبَّدوها، وهي علامة واضحة على ما تركِّز عليه الشركات، لا على التبذير.
أدرك بروزن تماماً المجال الذي ينبغي أن تركِّز عليه موارد “ناندوز”: الدجاج رائع المذاق الذي يُقدِّمه هذا المطعم. وكان حب بروزن لذلك الدجاج في النهاية ما جعله يخوض غمار هذا العمل في المقام الأول، فيما كان كل شيء آخر ثانوياً، بما في ذلك معيار الخدمة السريعة في قطاع المطاعم. وقد قال لنا بروزن: ” كانت كل الأحاديث في قطاعنا تدور حول تقديم الأطعمة السريعة رخيصة الكلفة. وأذكر أن بعض الزملاء قالوا لي إننا سنفشل فشلاً ذريعًا ما لم نتمكن من طهي دجاجنا في ثلاث دقائق. لكننا في ناندوز رفضنا ذلك التفكير، وحجَّتنا في ذلك أن جودة دجاجنا ستبقى عالقة في أذهان الناس مدة طويلة بعد نسيانهم فترة الانتظار”.
بالتالي، فإنّ الدرس الذي تستفيد منه الشركات هو: لا عملاؤكِ ولا موظفوكِ يريدون منك أن تُجيدي كل شيء. أعلني الحرب على برامج “التميز الوظيفي”، التي تستهلك المال والوقت الإداري، وأعيدي تركيز مواردك على القدرات القليلة التي تتمتعين بها، والتي هي حتمًا مذهلة. تحكَّمي باستراتيجيتك وطرق إدارتك للميزانية، التي غالبًا ما تُصمَّم لضمان تحكُّم كل بيروقراطي بموارد السنة الماضية، وطالبي بمناقشة واقعية للمواضع التي يجب أن تشملها إعادة توزيع الموارد. لا ديمقراطية في تركيز الموارد؛ تقبَّلي هذه الحقيقة وأعيدي استنهاض روحك الثائرة.
إم.إس. أوبروي وهوس المكتب الأمامي
يدرك مؤسِّسو الشركات الناجحون اقتصاديات ولاء العميل. وفي أيامهم التأسيسية الأولى، يعلمون أسماء جميع عملائهم، ولكن فيما تنمو شركاتهم، يصبح استمرار ذلك مستحيلاً. مع ذلك، يبقى المؤسِّسون مهووسين بالتأكد من أن كل عميل لهم يحظى بالاهتمام على مدار الساعة.
نقل عدد قليل من رواد الأعمال هذا الاهتمام إلى المكتب الأمامي في شركاتهم بالقدر نفسه من الفاعلية التي أبداها إم.إس. أوبروي (M.S.Oberoi)، مؤسس “مجموعة أوبروي” التي تضم سلسلة من الفنادق الفخمة في الهند. وكان أوبروي مهووساً بكل تفصيل في فنادقه قد يؤثر على تجربة العميل. وحتى بعد بلوغه الثمانين من العمر، ظل أوبروي يزور فنادقه، ليتأكد من أن موظفيه يفهمون عملهم بشكل صحيح، وبذلك أسس أوبروي ثقافة شاركه فيها جميع موظفيه هوسه بالتفاصيل.
وقد وصفت لنا بورنيما بامبال، مساعدة مدير المكتب الأمامي في منتجع “أوبروي أودايفيلاس” (Oberoi Udaivilas) في مدينة أودايبور الهندية، برنامج التمكين الذي تعتمده الشركة، والذي يهدف إلى تشجيع جميع الموظفين على القيام بما ينبغي لإسعاد العملاء، بما يشمل منح الموظفين صلاحية الاستفادة من مبالغ مالية صغيرة لتحقيق هذه الغاية. وقالت بامبال: “نحن نحب أن نفاجئ ضيوفنا ونُسعدهم بهدايا بسيطة وتفاصيل دقيقة، ويساعدنا برنامج التمكين في ذلك”.
كما أخبرنا فيكرام أوبروي، أحد أحفاد إم.إس. أوبروي، الذي يشغل حالياً منصب الرئيس التنفيذي للمجموعة، عن مثال ما حدث حين اكتشف طاقم موظفي أحد الفنادق أن عائلة أميركية تشغل غرفتين في الفندق، كانت تأخذ كل مستحضرات العناية الشخصية الموجودة في الغرفتين، مرتين في اليوم. وبدا هذا تجاوزاً للحد المقبول بالنسبة لعمّال الخدمة والتنظيف في الفندق. وكان رد الفعل الأول للمدير هو التوجه لمخاطبة أفراد تلك العائلة وإبلاغهم بتهذيب أنهم حصلوا على الأرجح على كفايتهم من مستحضرات العناية الشخصية.
بدل ذلك، قال أوبروي، وبعد تلقّي جَدِّه بعض التدريب: “صنعَ سلة من أنواع الصابون المختلفة، والشامبوهات، والزيوت المستخدَمة في المنتجع الصحي للفندق، وكتب ملاحظة ذيَّلها بتوقيع فريق الخدمة والتنظيف. وقد نصَّت الملاحظة على التالي: لاحظنا أنكم تحبون مستحضراتنا للعناية الصحية، وأردنا أن نهديكم مجموعة منها يمكنكم أخذها إلى منزلكم ومشاركتها مع أصدقائكم”. وأحبَّ أفراد العائلة هذه المبادرة وكتبوا لنا بعدها رسالة يقولون فيها إن فندقنا هو الأروع، وأنهم سيوصون جميع أصدقائهم بزيارته. وهي نتيجة رائعة لاستثمار صندوق من مستحضرات العناية الشخصية!”
يستطيع الجميع طبعاً تسميع العبارة الشائعة: “العميل أولاً”، لكن من المدهش كيف أن قلة من المؤسسات استعدت فعلياً للوفاء بهذا الوعد. لن تستطيع وضع العملاء أولاً ما لم تضع الأشخاص الذين يخدمون هؤلاء العملاء أولاً أيضاً. بالمثل، لن تستطيع وضع العملاء أولاً حتى تضج اجتماعات الإدارة العليا لمؤسستك بأصوات العملاء وموظفي المكتب الأمامي. عايِن جدول أعمال آخر اجتماع لهيئتك التنفيذية. هل وجَّه العملاء جدول الأعمال ذاك؟ وهل كان التركيز على تمكين موظفي المكتب الأمامي وإعادة توجيه الأنشطة لمساعدتهم في أداء واجباتهم على نحو أفضل؟ أم أن جدول الأعمال كان مصمماً لتلبية حاجات الإدارة العليا، التي رفعت تقارير بأنشطتها وأظهرت كم أنها كانت مشغولة؟ في معظم الشركات التي يديرها مؤسسوها، يمضي الرؤساء التنفيذيون معظم أوقاتهم في الميدان، ووقتاً قصيراً جداً وراء مكاتبهم. لِمَ؟ لأنهم يعرفون أي الأصوات ينبغي أن يستمعوا إليها.
غالب يورغانسي أوغلو وذهنية المالك
يتمتع رواد الأعمال أصحاب ذهنية المؤسِّس القوية أيضًا بما نسمّيه “ذهنية المالِك”: هم يفكرون في كل نفقة كما لو كانت من مالهم الخاص (وغالباً ما تكون كذلك)، ويكرهون كل أنواع البيروقراطية التي تُبطئ وتيرة عمل الشركة. إنهم منحازون إلى التصرف العملي. ومن أمثلة هذا النوع من رواد الأعمال، الرئيس التنفيذي لشركة “ماي” (Mey)، وهي شركة رائدة في صناعة المشروبات في تركيا. كانت هذه الشركة في بدايتها من شركات القطاع العام، إلا أنها خُصِّصت سنة 2004، إذ اشترتها مجموعة من مقاولي البناء مقابل 292 مليون دولار. باعت المجموعة هذه الشركة بعد سنتين لشركة “تي بي جي” (TPG)، مقابل 810 ملايين دولار. وفي عام 2011، باعتها الشركة الأخيرة لشركة “دياجيو” (Diageo) مقابل 2.1 مليار دولار، ما يُعَد قصة جميلة عن توليد القيمة. وكان غالب يورغانسي أوغلو أول موظف عيَّنه المقاولون الأوائل الذين اشتروا الشركة، وبقي إلى اليوم رئيسها التنفيذي.
كان يورغانسي أوغلو شغوفاً بالحفاظ على ذهنية المالك في عمله في شركة “ماي”، لا سيما أثناء تحولها من ملكية خاصة إلى ملكية شركة. يقول أوغلو: “نحن نعلم أننا نستطيع المحافظة على سرعتنا ونشاطنا، إنْ كان فريقنا يتبنى ذهنية مالِكي الشركة”. ومن الطرق التي اعتمدها يورغانسي أوغلو للمحافظة على سرعة عمل الشركة عقد اجتماع كل يوم إثنين يتيح لكبار مدراء الشركة الالتقاء وحل المشكلات بسرعة. يقول: “من أصعب الأمور على الصعيد الثقافي هو إفهام الجميع بأنه لا بأس بحدوث خلاف. فأنا أريد أن يتشاجر أعضاء فريق سلسلة الإمداد في الشركة ليصبحوا منطقيين ويبحثوا عن منافع عظيمة. كما أريد أن يتشاجر أعضاء فريق التسويق في شركتي للحصول على متغيرات جديدة، ومنتجات جديدة. يقضي عملي بأن أتأكد من أننا نعالج الخلافات التي لا بد أن تنشأ حين يقوم موظفونا بعملهم”.
ويفسِّر يورغانسي أوغلو كلامه بأن تقبُّل الخلاف يُبقي شركة “ماي” نشطة؛ “فالشركة بكاملها تعلم أننا سنعالج المشكلات الناشئة كل يوم إثنين، لذا يطرح الموظفون أية مشكلة تَحول دون أخذهم خطوات عملية. إنه عقد اجتماعي، وتطبيقنا إياه بالطريقة الصحيحة يضمن لنا تحقيق تقدم أسرع من منافسينا”.
والسرعة، كما يشير يورغانسي أوغلو، عامل تنافسي، إلا أن عدداً كبيراً جداً من الشركات تغيب عنه هذه الحقيقة، ويقع ضحية متناقضة النمو: يخلق النمو التعقيد، ويقتل التعقيد النمو. وفي حين صُمِّمت اجتماعات يورغانسي أوغلو لتحل الخلافات سريعاً وتقضي على المشكلات، تعقد شركات كثيرة جداً اجتماعات تستحدث إجراءات إضافية، وتحليلات جديدة، وحتى اجتماعات جديدة. وحين تفقد الشركات مقومات ذهنية المؤسس التي وضحناها أعلاه، فإنها تفقد مناعتها للتعقيد. لذا اسأل نفسك: كيف يصمد الجهاز المناعي لشركتك؟
تنويه: نشرت هذه المقالة ضمن اتفاقية إعادة النشر باللغة العربية الموقعة بين هيكل للإعلام ونيويورك تايمز سينديكت لنشر مقالات من هارفارد بزنس ريفيو، وتمت ترجمتها في قسم التعريب والترجمة في هيكل ميديا، إن النسخ وإعادة النشر بأي شكل وفي أي وسيلة دون الحصول على إذن مسبق يعتبر تعدياً على حقوق الملكية ويعرض صاحبه للملاحقة القانونية. جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشينغ – 2015.