الجزيرة التي غيرت طريقة سفرنا حول العالم… تعرفوا عليها

منوعات
18 مارس 2019آخر تحديث : منذ 5 سنوات
الجزيرة التي غيرت طريقة سفرنا حول العالم… تعرفوا عليها
106024001 e04b8b3d f8e3 403c 9f0c 599d2bd8a7e3 808644 large - مجلة مال واعمال

يتسم الهبوط بالطائرة في مطار “نادي” الدولي في فيجي بطابعٍ مذهلٍ. فبعدما يقطع المرء مئاتٍ من الكيلومترات دون أن يلمح شيئاً أسفل طائرته سوى المياه، تظهر سلسلةٌ من الشعاب المرجانية من خلال الأمواج التي تتحطم عليها. وخلفها تقبع جزرٌ بركانيةٌ بوعورتها وطابعها الصخري واللون الأخضر الذي يكسوها، كل ذلك في آن واحد.

ثم تلوح أمام ناظريك جزيرة فيتي ليفو، كبرى جزر فيجي، التي لا يسمح لك اتساعها برؤيتها كاملة حتى من على بُعد. وهكذا يصبح انطباعك الأول عن هذا البلد مشوباً بشعورٍ مزدوج يمتزج فيه الإحساس بكونه نائياً وشاسعا في آنٍ واحد.

إنه منظرٌ طبيعيٌ رائعٌ حقا، ويزيد من روعته حقيقة أنه لبلدٍ قاد الملاحة الجوية إلى دخول القرن الحادي والعشرين. فالمجال الجوي الخاص بالجزر المؤلفة لفيجي، كان الأول الذي يُدمج في نظام التموضع العالمي أو نظام تحديد الموقع باستخدام الأقمار الاصطناعية المعروف باسم “جي بي إس”، وذلك بعدما أدخلته السلطات الحاكمة في هذا البلد في منظومتها للملاحة الجوية. وبهذه الخطوة، غيّرت فيجي – وإلى الأبد – الطريقة التي ننتقل بها من موقعٍ إلى آخر بعيد عنه على خريطة العالم.

وإذا عدنا إلى الوراء قليلاً، سنجد أن الـ “جي بي إس” هو نظام ابتكره الجيش الأمريكي في سبعينيات القرن الماضي، بهدف تحسين إجراءات الملاحة الجوية. وفي ذلك الحين، كان هذا الأمر بشكلٍ عام يعتمد على أجهزة الرادار ومنظومات التوجيه البصري، إذ كان الطيارون يعتمدون – منذ أربعينيات القرن الماضي – على مساراتٍ ملاحية تحددها مراكز أرضيةٌ يُطلق عليها اسم “منارات”، سواء من خلال إرسالها إشاراتٍ لاسلكيةً أو علاماتٍ مرئيةً.

ولم يكن هذا النظام خالياً من العيوب، ففي فيجي – على سبيل المثال – لم تُزود سوى خمسةٍ من أبراج المراقبة بـ “مناراتٍ لاسلكية”، ما يعني أنه لم يكن لدى الطيارين أي أجهزة رادار يمكنهم الاعتماد عليها، في مساحةٍ تصل إلى نحو 80 في المئة من المجال الجوي الهائل لهذا البلد.

وكانت الأمور أكثر صعوبةً وتعقيداً فوق المسطحات المائية الواسعة. وفي ظل غياب هذه “المنارات اللاسلكية” بشكلٍ كامل، كان الطيارون يلجأون إلى ما يُعرف بـ “تقدير الموضع” أو “التقدير الاستدلالي” وهو أسلوبٌ في الملاحة الجوية، يتم من خلاله تحديد الموضع الحالي اعتماداً على آخر نقطةٍ معروفة الإحداثيات.

كما كان يتم اللجوء في ذلك الوقت إلى ما يُسمى بـ”الملاحة الفلكية”، والتي تستخدم القياسات بين الأفق المرئي ومواقع أجرامٍ وكواكب مثل الشمس والقمر أو أي كوكبٍ آخر كنقاطٍ مرجعيةٍ. وحتى النصف الثاني من القرن العشرين، كانت طواقم الطائرات التي تقوم برحلاتٍ عبر المحيط الأطلسي، تضم شخصاً يُعرف باسم “ملاح الرحلة”، كان يحمل على عاتقه المسؤولية الثقيلة المتعلقة بإجراء الحسابات الخاصة بالملاحة الجوية وتحديد المواقع طيلة الطيران، وهو ما كان يريح قائد الطائرة من ذلك العبء.

غير أن استخدام الـ”جي بي إس”، يؤدي إلى تحديث موقع الطائرة بشكلٍ مستمرٍ ودقيق، من خلال تحديد موضعها بالنسبة للأرض والأقمار الاصطناعية. وفي عام 1978، دخل إلى المدار أول قمرٍ من مجموعةٍ سيصل عددها في نهاية المطاف إلى 24 قمراً تشكل المنظومة الكاملة للـ”جي بي إس”، مُدشناً بذلك مشروعاً يستمر 15 عاماً.

حتى أواخر القرن العشرين، كانت طواقم الطائرات تضم غالباً شخصاً مختصاً بإبقاء الطائرة في مسارها الصحيح

وفي بادئ الأمر، بحثت وزارة الدفاع الأمريكية إمكانية تقاضي رسومٍ نظير استخدام الآخرين نظام “جي بي إس” الذي ابتكرته. لكن الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان عاد وأعلن أن استخدام هذه المنظومة سيُتاح للجميع بشكلٍ مجاني، وذلك عقب انحراف طائرة كورية عن مسارها عام 1983، ودخولها المجال الجوي للاتحاد السوفيتي السابق – المحاط بالقيود وقتذاك – ما أدى إلى إسقاطها.

وأفضت هذه الخطوة – التي اتخذها ريغان أملاً في أن تؤدي للحيلولة دون تكرار مثل هذه الحوادث المؤسفة مستقبلاً – إلى تمهيد الطريق أمام الشركات التجارية لتطوير معداتٍ مُخصصةٍ للاستخدام المدني للـ”جي بي إس”.

وبنهاية عام 1990، أصبح هناك 16 قمراً اصطناعيا – تتبع ذلك النظام – قيد التشغيل ومنتشرة في أماكنها، وهو ما كان كافياً لأن يغطي “جي بي إس” في كثيرٍ من الحالات غالبية أنحاء العالم. وبحلول ذلك الوقت، كانت أجهزة الاستقبال المرتبطة بهذا النظام، والتي يمكن للأفراد استخدامها، متاحةً للعامة.

وبينما أثبت هذا النظام جدواه من الوجهة العسكرية خلال حرب الخليج الثانية عام 1991، فقد بات بعض قائدي الطائرات التي تقوم برحلاتٍ تجاريةٍ هنا وهناك يستخدمونه على نحوٍ غير رسمي. ورغم أن إمكانات الـ”جي بي إس” كانت واضحةً للعيان في ذلك الوقت، فإن استخدامه في ساحةٍ أوسع، مثل مجال الطيران المدني، كان يحتاج إلى إجراء اختباراتٍ عليه في “بيئةٍ ضابطةٍ”، قبل أن يصبح خيار الاعتماد واسع النطاق عليه مطروحاً على الطاولة.

اعتمد “ملاحو الرحلات الجوية” في كثيرٍ من الأحيان على “التقدير الاستدلالي” لكي يتمكنوا من الطيران فوق مساحاتٍ شاسعةٍ من المياه كتلك التي تفصل بين الجزر المؤلفة لفيجي وبعضها بعضاً

وفي ذلك الوقت، كانت فيجي بقطاعها السياحي الآخذ في الاتساع – الذي كان يؤدي لزيادة الطلب على رحلات الطيران الداخلية فيها – تواقةً لتحسين منظومتها للملاحة الجوية. وفي مذكراته، روى نورمان يي، الرئيس التنفيذي السابق لهيئة الطيران المدني في هذه الدولة صغيرة المساحة، ما حدث في تلك الفترة تقريباً، من قدوم ضابط عملياتٍ جويةٍ يُدعى جاك سنو من نيوزيلندا للعمل في فيجي، وهو مُفعمٌ بالحماسة لتقنية الـ”جي بي إس” الجديدة في ذلك الوقت.

ولم تكن التكاليف تمثل مشكلةً على ما يبدو، إذ أفادت التقديرات بأنه من الممكن تزويد كل الطائرات العاملة على الخطوط الداخلية في البلاد بأجهزة استقبالٍ تعمل بذلك النظام، مقابل التكلفة نفسها التي تتكبدها السلطات لتزويد مطارٍ واحدٍ في فيجي بـ”منارةٍ” تعمل بنظام الرادار.

من جهةٍ أخرى، كانت فيجي في وضعٍ جيدٍ يؤهلها للاضطلاع بدور الريادة في هذا الأمر. فقد كان قطاع الطيران الداخلي فيها متطوراً للغاية بالقياس إلى كونها دولةً صغيرة؛ إذ كانت أراضيها تضم 19 مطاراً تجارياً بجانب سبعة مطاراتٍ خاصة. كما أن توزع أراضيها على أكثر من 300 جزيرة تمتد على مساحةٍ تفوق نصف مليون كيلومتر مربع في المحيط، جعل من الممكن أن يتم اختبار هذا النظام على اليابسة وفوق مياه البحر والجبال، وفي ظل أنماط طقسٍ استوائيةٍ متطرفة، وفي رحلاتٍ جويةٍ طويلة؛ كل ذلك ضمن مجالٍ جويٍ واحد.

وفاتحت فيجي الولايات المتحدة والسلطات المعنية بالطيران المدني فيها، لتعرض التطوع لكي تصبح ساحة اختبارٍ لنظام “جي بي سي” على صعيد الطيران المدني. ووافقت إدارة الطيران الفيدرالية في الولايات المتحدة على تمويل عملية تطوير هذا النظام ليكون صالحاً للاستخدام في مجال الرحلات التجارية، ومد فيجي بالمعدات والدعم التقني اللازم لذلك، مقابل المعلومات التي قد تحصل عليها بفضل تلك التجربة.

واستغرق الأمر أكثر من عام لكي يصبح النظام جاهزاً للاستخدام، ولتركيب المعدات اللازمة له. كما تطلب الأمر وضع مسارات طيرانٍ جديدة، وإعداد كتيباتٍ إرشادية خاصةٍ بهذه المنظومة، وتدريب الطيارين وأفراد الطواقم عليها.

كانت فيجي، بقطاع الطيران المدني الداخلي المتطور لديها، في وضعٍ جيدٍ لتكون رائدةً على صعيد تطبيق تقنية الـ”جي بي إس”

وقد التقيت خلال زيارتي لفيجي بإيليتيا تاباكاوكورو، وهو واحدٌ ممن كانوا يعملون في مجال مراقبة الحركة الجوية في مطار “نادي” عندما بدأ تشغيل النظام الجديد. كان لقاؤنا في المطار نفسه، الذي يضم مقر هيئة الطيران المدني لفيجي. ويقع المكتب الرئيسي للهيئة بجوار برج المراقبة في المطار، الذي كان ربما هو البرج الأول في العالم الذي يتعامل مع طائرةٍ تعتمد في تحديد موقعها على الـ”جي بي إس”.

وتذكر الرجل المرة الأولى التي استقل فيها طائرةً تعمل بهذا النظام، وذلك مع اثنين من زملائه الطيارين، خلال رحلةٍ من مطار “نادي” إلى جزيرةٍ أصغر حجماً تقع في الشمال الشرقي من البلاد. وكانت الطائرة قد جُهِزَتْ لتوها بنظام “جي بي إس”، لكن النظام لم يكن قد اسْتُخدِمَ بشكلٍ عمليٍ على الإطلاق حتى تلك اللحظة.

وخلال الرحلة، سارت الطائرة على طول الشواطئ الشمالية لجزيرة “فيتي ليفو” حتى وصلت إلى بلدةٍ توجد فيها “منارةٌ مرئية”، وهي النقطة التي تعين عليها بعدها أن تنحرف يساراً لتطير فوق المحيط. وبينما كان الطيارون بانتظار تحديد موقع الجزيرة التي تشكل وجهتهم النهائية، أدت الرياح التي كانت غير معتادة في ذلك اليوم إلى دفع طائرتهم إلى جهة الشمال بشكلٍ أكثر من المتوقع، ليبدو واضحاً أنهم ضلوا الطريق في الجو.

وفي هذه اللحظة تذكر تاباكاوكورو وجود جهاز الاستقبال المزود بنظام “جي بي إس” وقام بتشغيله. وفي غضون دقائق، عادت الطائرة إلى مسارها الصحيح. وكانت هذه تجربةً مُلهمةً وكاشفةً بالنسبة لمجموعة طيارين اعتادوا الطرق القديمة للملاحة الجوية والتنقل في الأجواء.

وفي أواخر عام 1993، أصبح القمر الاصطناعي الرابع والعشرين والأخير في منظومة أقمار الـ”جي بي إس” قيد التشغيل. وفي أبريل/ نيسان من العام التالي مباشرةً أصبحت فيجي رسمياً أول دولة تُدمِجْ هذا النظام في منظومتها للملاحة الجوية.

وقد عاد ذلك بالفائدة على الفور على هذه الدولة الصغيرة. وقال يي في هذا الشأن “كنا مفعمين بالحماس لما حققناه. لقد وضعنا بين الرواد في ما يتعلق بمجال الطيران”. كما كان ذلك بمثابة نعمةٍ بالنسبة لقطاع السياحة المزدهر في هذا البلد.

أصبحت فيجي رسمياً أول دولةٍ في العالم تُدْمِج الـ”جي بي إس” في منظومتها للملاحة الجوية

وقد أثبتت فيجي من خلال تلك التجربة أن استخدام الـ”جي بي إس” يمكن أن يُحْدِث تحسيناتٍ في قطاع الطيران بطرقٍ لا حصر لها، إذ جعل السفر جواً أكثر سرعة وكفاءةً وأماناً كذلك. فخلال الربع قرن الذي مر منذ إدخال هذه الدولة ذلك النظام في منظومة رحلات الطيران الداخلية الخاصة بها، تم تبني تلك التقنية في أنحاء مختلفةٍ من العالم، وجرى ذلك في كثيرٍ من الأحيان بمساعدةٍ مباشرةٍ من جانب خبراء من فيجي نفسها. والآن يخدم هذا النظام 31 قمراً اصطناعيا. أما الأقمار الـ 24 التي تم تشغيلها في البداية، فقد حلت أقمارٌ جديدةٌ محلها.

وبفضل تفعيل هذه التقنية، لم يعد الطقس يشكل تلك العقبة الصعبة كما كان الحال في السابق. فبحسب تاباكاوكورو؛ كان التوجه السائد من قبل هو أن تعود الطائرة إلى المطار الذي أقلعت منه، إذا واجهت أحوالاً جويةً سيئةً. لكن استخدام الـ”جي بي إس” بات “يضمن لك الوصول إلى مقصدك” حتى إذا واجهت عاصفةً أو تدنى مستوى الرؤية بشكلٍ كبير.

كما أن الاستفادة من هذه المنظومة جعل بوسع الطائرات أن تحلق الآن لساعاتٍ فوق المحيط، وهي قادرةٌ على التنقل بدقة من نقطةٍ لأخرى. فضلاً عن ذلك، أصبح بالإمكان تسيير عددٍ أكبر من الطائرات بأمان في الجو في أي وقتٍ من الأوقات. فبعدما كان يُشترط في السابق أن تفصل مئة ميل بين أي طائرتين تسيران في الاتجاه نفسه، أصبحت المسافة التي تشترطها اللوائح السارية دولياً الآن – كما قال لي مسؤولو هيئة الطيران المدني في فيجي – لا تتجاوز 23 ميلاً فحسب.

وهكذا فبعدما كان على الطائرة الانتظار 18 دقيقةً للإقلاع في الاتجاه الذي أقلعت صوبه الطائرة السابقة لها، أصبحت هذه الفترة لا تتعدى 10 دقائق. وعلاوة على هذا وذاك، تقلصت مدة الرحلات الجوية، نظراً لأنه أصبح بمقدور الطائرات الآن أن تتجه مباشرةً إلى مقاصدها، بدلاً من أن تتخذ مساراتها بحسب مواقع “المنارات اللاسلكية” التي تضطر للانتقال من إحداها للأخرى.

يُضاف إلى ذلك أن استخدام تقنية “جي بي إس” أدى إلى استهلاك أكثر كفاءةٍ للوقود. فقبل اللجوء إلى هذا النظام، كانت الطائرات تُلزم بأن تتزود بوقودٍ كافٍ لإعادتها من حيث أتت، وذلك لتمكينها من العودة إلى مطار الإقلاع حال تعذر عليها الهبوط في مقصدها. وبعد أن جعل الـ جي بي إس” مثل هذا الإجراء الاحترازي غير ضروري، صار بمقدور الطائرات التخفف من تلك الحمولة والعبء الإضافييْن.

وفي هذا الشأن، خَلُصَ تقريرٌ أصدرته الأمم المتحدة عام 1996 إلى أن زيادة كفاءة استهلاك الوقود كان يعني أن أجهزة الاستقبال المزودة بنظام الـ”جي بي إس” عوّضت تكاليفها خلال ثلاثة أشهر لا أكثر.

وفي نهاية المطاف، فعلى الرغم من كل ما يمكن أن نشكو منه حالياً بشأن السفر الجوي أو الأوضاع في المطارات، فإنه ربما يكون من بواعث الراحة أن نتذكر أنه بفضل هذه الجزيرة الصغيرة الواقعة في المحيط الهادي التي تُدعى فيجي، صار بمقدورنا الآن أن نصل إلى مقاصدنا على نحوٍ أسرع وبشكلٍ أكثر أماناً من أي وقتٍ مضى.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.