قفزةٌ جنونية ثم هبوطٌ سريع ثم قفزةٌ أخرى، ربما يكون هذا هو ملخص تعاملات العملة الأعلى قيمة في العالم والأكثر إثارة كذلك، بل والأكثر غموضًا، إذ يمكننا أن نتوقع بناء على الكثير من المعطيات مستقبل الأسهم والعملات التقليدية، إلا أن مستقبل عملة البتكوين الافتراضية يعدُّ غامضًا دومًا، حيث لا تزال سيئة السمعة وهي التي تستخدم اليوم في الابتزاز الإلكتروني وجرائم الإنترنت وتجارة السلاح على الويب والإرهاب، وفي الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات التي تطالب بجعلها قانونية وأن تعترف بها الحكومات، تتعايش كل من الصين واليابان وكوريا الجنوبية حاليًا معها ويراقبونها.
البتكوين هي عملة افتراضية ليس لها وجود فيزيائي أو ملموس يمكن رصد حركته في النظام النقدي أو المصرفي، باعتبارها عملة افتراضية يجري تداولها بين الأفراد أو الشركات والمؤسسات عبر الإنترنت.
وارتفعت مؤخرًا أصوات المحذرين من العملة الرقمية، على غرار نصيحة الملياردير «وارن بافيت» الذي لا يؤمن بالعملة الافتراضية؛ لأنها ليس لها قيمة حقيقية برأيه، إذ يقول «ابق بعيدًا عن البتكوين؛ لأنها سراب في الحقيقة، إنها طريقة فعالة لنقل كميات من المال، وهي أيضًا تسمح لك أن تبقى مجهولًا، إلا أن الفاتورة تقوم بتحويل الأموال أيضًا، إن فكرة أن البتكوين تمتلك قيمة حقيقية عظمى هي برأيي مجرد مُزحة». وانضم مؤخرًا لصف المشككين «جي بي مورجان تشايس»، البنك الأمريكي متعدد الجنسيات للخدمات المالية المصرفية، وكذلك المستثمر الملياردير هوارد ماركس.
بينما يرى أندرو شنغ، زميل المعهد الآسيوي بجامعة هونج كونج، والرئيس السابق لهونج كونج للأوراق المالية والعقود الآجلة، «أن خطر العملات المشفرة يمتد إلى ما هو أبعد من تسهيل الأنشطة غير المشروعة، إذ لا تشتمل العملات المشفرة على قيمة جوهرية حقيقية، ولكنها، خلافًا للمال الرسمي، لا تشتمل على مسؤولية مقابلة، وهذا يعني عدم وجود مؤسسة مثل بنك مركزي له مصلحة ثابتة في الحفاظ على قيمتها»، ومع توسع نطاق استخدام العملات المشفرة، تتزايد أيضا العواقب المحتملة المترتبة على انهيارها.
مرحلة جديدة من تقلُّبات البتكوين
في 15 سبتمبر (أيلول) الجاري ارتفعت عملة بيتكوين الرقمية أكثر من 20% خلال أربع ساعات فقط من التعاملات، جاء هذا بعدما ارتفعت سريعًا إلى مستويات قياسية تقترب من 5 آلاف دولار هذا الشهر، انخفضت نحو 40% خلال 12 يومًا، هذه النسب الكبيرة صعودًا وهبوطًا تدشن مرحلة مختلفة بعض الشيء للعملة الافتراضية، هذه المرحلة تجعل كل الاحتمالات مفتوحة أمام المتعاملين كما أنها بمثابة إنذار بأن الاستثمار في البتكوين لا يعرف الأمان، وهو الأمر الذي سيجعل العملة تفقد الكثير من المستثمرين الجدد، فنسبة المخاطرة باتت مضاعفة.
في هذه المرحلة استمر انخفاض البتكوين على مدار 7 جلسات على التوالي، وهو الأمر الذي جعلها تتراجع بأكثر من 1864 دولارًا أمريكيًا منذ مطلع سبتمبر (أيلول) الجاري، إلى حدود 3086 دولارًا في منتصف الشهر، بعد أن سجلت أعلى مستوى لها على الإطلاق في الأول من الشهر الجاري، عند 4950 دولارًا، وهو ما يشير إلى جنون حقيقي بالأسعار، تجعل البعض من المستثمرين بالعملة يفقد أغلب ثروته خلال ساعات.
يشار إلى أن هذه المرحلة المجنونة ليست الأولى للعملة الافتراضية، حيث انخفضت من أعلى 1100 دولار أواخر عام 2013 إلى أقل من 200 دولار بعد ذلك بعام واحد قبل أن تقفز مجددًا وتصل إلى مستوياتها الحالية، لكن تبقى المرحلة الحالية مختلفة على كل حال، وذلك للصعود القوي جدًا بقيمة البتكوين.
هل تقترب فقاعة البتكوين من الانفجار؟
وبالانتقال إلى سؤال، هل يشكل البتكوين حاليًا فقاعة تقترب من الانفجار؟، يرى الباحث الاقتصادي المغربي، أحمد كشيكش، أنه بالعودة إلى الأساسيات الاقتصادية، نجد أن الفقاعات تحدث عندما يرتفع أسعار نوع معين من الأصول فوق قيمتها الحقيقية بشكل كبير، ثم يستمر هذا الارتفاع بشكل مستمر لفترة معينة، إذًا هذا الارتفاع يمتاز بكونه غير مبرر: أي أن الأساسيات الاقتصادية للأصل -الخصائص الاقتصادية التي تعطي القيمة الحقيقية- لم تتغير بشكل كبير بحيث تبرر الارتفاع الكبير في السعر، فعلى سبيل المثال إن سبب فقاعة الإنترنت، كان شراء أسهم شركات تكنولوجيا المعلومات فقط لأنها مربحة، فقيمة الأسهم ترتفع باستمرار، إذا اشتريت اليوم، تبيع غدًا بثمن أكبر، وهنا يزداد الطلب وتحدث الفقاعة.
ولكن لماذا ينخفض السعر فجأة (انفجار الفقاعة)؟ غالبًا حدوث الهبوط أمر حتمي، وحينها فقط سيبدأ الناس في البيع الجنوني بنفس حماستهم عند الشراء الجنوني للأصل، وحينها فقط تنفجر الفقاعة وتحدث الكارثة، وربما يتساءل البعض لماذا لا يدرك الجميع ذلك، وفي الواقع، لقد سميت الفقاعة فقاعة لأن الذين يعيشون داخلها لا يعلمون أنهم داخل فقاعة، وهو ما حدث أثناء أشهر فقاعتين مرا على العالم.
ويقول كشيكش خلال حديثه لـ«ساسة بوست» إن ارتفاع سعر البتكوين خلال سنة بحوالي 6 أضعاف، وخلال سنتين بأكثر من 15 ضعفًا، غير منطقي، متسائلًا،وما الذي حدث خلال السنتين الماضيتين ليجعل سعره يرتفع 15 ضعفًا؟، هل هناك سبب مقنع لهذا الارتفاع؟ إذا لم يكن هناك سبب فإن هذا الجنون لن يستمر.
على الجانب الآخر، يتجه الملياردير مايك نوفوغراتز، الذي راهن بقوة قبل سنوات على العملات الرقمية لبيع ما يملكه من عملات رقمية، إذ قال خلال منتدى عقد بكلية هارفارد لإدارة الأعمال في نيويورك بأبريل (نيسان) الماضي، أن قيمة العملات الرقمية مثل «بتكوين» و«إثيريوم» قد بلغت ذروتها هذا العام، مؤكدًا: هذ العملات هي «أكبر فقاعة في حياته»، وموضحًا أن البنوك المركزية حول العالم تعتبرها التهديد الرئيسي للعملات الرقمية.
وكانت وكالة «بلومبيرج» نشرت تصريحات لـ «جيمي دايمن» الرئيس التنفيذي لبنك جي بي مورجان، قال فيها إن البتكوين عبارة عن خدعة، وأن «صعود البتكوين يمثل فقاعة استثمارية، نتوقع انفجار فقاعة البتكوين، الأمر لن ينتهي على خير».
وربما تساعد الشكوك في الجدوى الاستثمارية للعملة، في انفجار وشيك للبتكوين، إذ أن هناك أسباب تشكك في جدوى الاستثمار في البتكوين، فالأول أمر هندسي وهو هشاشة البنية التحتية الذي بدوره يثني الغالبية عن الاستثمار، والسبب الآخر فلسفي، وهو أن العملات الرقمية ليست لها قيمة أصولية جوهرية أي لا مكان لها في محفظة الاستثمار.
لكن المهم الآن متى تنفجر الفقاعة؟، ربما يكون هذا السؤال هو الأهم الآن، ولكن في الغالب هذا السؤال من الصعب جدًا الإجابة عنه، وإلا لم يكن هناك فقاعات في العالم لو كان هناك إمكانية لمعرفة موعد انفجار الفقاعة، إلا أنّ محللين يرون أنّ هذه القفزة في قيمة البتكوين نادرًا ما ستستمر، إلا إن كان السبب وراء هذه الارتفاعات القياسية، أن العملة سيكون لها دور في التعاملات التجارية، أو ستكون مخزنًا للقيمة أو أنها ستكون مثل «الذهب» أو «الدولار»، لكن كل هذا الأمور مستبعدة حاليًا وسط التأرجح الكبيرة بقيمة العملة.
عمومًا تحلت بيتكوين بكل سمات الفقاعة منذ البداية، فكانت أصلًا جديدًا كليًا، وشكلت نظامًا للدفع الرقمي يتيح للمستخدمين إجراء معاملاتهم في أي مكان في العالم دون وسطاء أو تدخل حكومي، وتدار تعاملاتها عبر شبكة لامركزية، كما أن أصل نشأتها غامض، فالعالم يعرف مؤسسها باسم «ساتوشي ناكاموتو»، لكن لا أحد يعلم من هو هذا الشخص بالضبط أو إذا كان شخصًا واحدًا بالأساس، وكل ذلك يعيد للأذهان فقاعة أخرى.
كما ارتفع سعر البتكوين بنحو 3 ملايين في المائة منذ إطلاقها في يوليو (تموز) عام 2010، وحققت عائدًا استثماريًا سنويًا يبلغ 351% منذ ذلك الحين، وليس من السهل تبرير هذا النوع من العوائد لأي استثمار، فيما يعد الاختلاف بين السعر والقيمة هو ما مكّن المراقبين من التحذير إزاء أسعار أسهم شركات الإنترنت المتضخمة أواخر التسعينيات، ومن عدم تحلي سندات الرهن العقاري بالأمان خلال فقاعة الإسكان، وهو ما لا ينطبق على البتكوين.
مخاوف الانقسام تهدِّد بقاء البتكوين
رغم ما تشهده البتكوين من تقلبات دائمة، إلا أن هناك اضطرابات استثنائية، ظهرت مؤخرًا، وذلك بعد أن زادت المخاوف من وقوع صراع داخلي بين المتعاملين بهذه العملة، ورغم أنها تراجعت لكنها لم تختف تمامًا، إذ تتلخص تلك المخاطر في إن العملة تواجه مخاطر بأن تُصبح ضحية لقفزتها القوية، حيث أدى انتشار التكنولوجيا المالية إلى بطء معالجة المعاملات، إذ شكى بعض المستخدمين من أنهم يضطرون للانتظار ثلاثة أيام أو أكثر للتأكد من إنجاز المعاملات التجارية حينما كان سجل المعاملات في أسوأ حالاته في مايو (آيار) الماضي.
فيما ارتفعت الرسوم أيضًا لتصل إلى خمسة دولارات لكل معاملة في بداية يونيو (حزيران) الماضي، وهذا الأمر يجعل استخدام عملة البتكوين أمرًا مكلفًا للغاية في بعض عمليات الشراء، بينما تكمن الخطورة في أن عملة البتكوين قد تنقسم فعليًا إلى اثنتين، إحداهما غير متطابقة مع الأخرى، وهو ما يؤدي في النهاية إلى تقويض الثقة في هذا المشروع تمامًا، وربما انتهائه.
وترجع المشكلة إلى أن التكنولوجيا الأساسية لبتكوين تحتوي على قيود داخل النظام نفسه، وهي أن سجل المعاملات السابقة، والذي يُعرف بـ«سلسلة الكتل»، يمكن أن يستوعب ميجابايت واحد فقط من البيانات، تُضاف إليه كل عشر دقائق، ولتوثيق المعاملات، تحدث عملية تُسمى «التعدين»، وهي عملية حسابية معقدة هدفها التدقيق والتوثيق وتسجيل العمليات التي تجري بين محافظ العملات الإلكترونية، وهذه العمليات تُنتج معادلات حسابية مُشفرة، وخلال عملية التعدين، تُسارع أجهزة المتطوعين إلى حل المشكلات الحسابية المعقدة.
هذه المشكلة قد تؤدي في واقع الأمر إلى وجود نوعين من عملة بتكوين، إذ يفضل العديد من المشاركين في عمليات التعدين الرقمي للبتكوين ما يُطلق عليه «حل بيتكوين اللامحدود»، ولكن حتى الآن لا يوجد حل واضح لهذه المشكلة، وهو أيضًا أمر قد يضر العملة الرقمية كثيرًا.
على عكس ما يقال.. القرارات الحكومية تحرك السعر
عمليًا نرى أن العملة الافتراضية لم تنجح في أهم هدف قد أسست من أجله، وهو ألا تتأثر بالنظام العالمي وتعمل بعيدًا عن القرارات والقيود الحكومية لكن ما يحدث الآن هو أن البتكوين فشلت في هذا الهدف، إذ يتأثر هبوطًا وصعودًا بقرارات البنوك المركزية وعلى رأسها المركزي الصيني، إذ لم يعد وجود لادعاءات مؤيدي العملات الرقمية بأن نشاطها خارج سيطرة الحكومة بسبب لا مركزيتها نظرًا لتداولها عبر العديد من أجهزة الحواسب المختلفة.
وربما لا تكون الحكومات قادرة على إيقاف كافة الخوادم، لكنها قادرة على حظر الأشخاص والشركات الخاضعة لسلطتها القضائية سواء شراء أو بيع أو تداول أو حيازة هذه العملات، مما يجعلها غير قابلة للتحويل إلى أي شيء مفيد، ولعل الحكومة الأمريكية لها تجربة مهمة مع حظر شركات «بوكر» عبر الإنترنت منذ عقد مضى، على الرغم من أن تلك الشركات تعمل من خارج أي ولاية قضائية في الولايات المتحدة، والعملات الرقمية ليست أكثر أمانًا.
لكن فيما يخص البتكوين فإن يوم 14 سبتمبر (أيلول) 2017، يعد مؤشرًا واضحًا على أن الحكومات تستطيع دفع البتكوين إلى مستويات منخفضة جدًا، إذ قالت بورصة «بي.تي.سي تشاينا» الصينية لتداول عملة البتكوين إنها ستوقف التداول اعتبارًا من 30 سبتمبر (أيلول) الجاري، وهو ما دفع سعر البتكوين وغيره من العملات الرقمية للتراجع الحاد، وذلك تزامنًا مع حملة شنتها الجهات التنظيمية على القطاع وسط مخاوف من أن يكثف المستثمرون الصينيون مضاربتهم في العملات الافتراضية.
وتشكل الصين نحو 23% من تجارة البتكوين وهي أيضًا موطن للعديد من أكبر عمال المناجم في بيتكوين في العالم، الذين يستخدمون كميات هائلة من القدرة الحاسوبية لتأكيد المعاملات بالعملة الرقمية.
تأثير الصين في البتكوين، لا يقتصر على السعر فقط، بل ربما تكون الصين أهم مقياس للعملة، إذ أن كثيرًا من المحللين يفسرون الإقبال الهائل للصينيين على البتكوين، بأنها تستعمل لتجنب القوانين الحكومية الصارمة التي تهدف إلى منع الأموال من مغادرة تلك البلاد، إذ أن أغلب عمليات التداول بعملة البتكوين تجري في الصين، ويتيح ذلك للصينيين الالتفاف على القوانين المحلية المقيدة لحجم الأموال التي يمكنهم تداولها، لذلك تحاول بكين إحداث رقابة لتداولات العملة الرقمية، وفي حال نجاح الصين في ذلك يعني أن النسبة الأكبر من التعاملات على البتكوين ستختفي.