مجلة مال واعمال

الاقتصاد الريعي والاقتصاد المعرفي

-

في الواقع الملموس مازالت أغلب الدول المنتجة للنفط تعتمد في اقتصادها ودخلها على إنتاج النفط وتصديره بصورته الخام وذلك على الرغم من السباق المحموم في الكشف عن مصادر طاقة بديلة ومتجددة يتمثل بعض منها في التوسع في استخدام الطاقة النووية في الأغراض السلمية، وتطوير خلايا الوقود لتصبح أكثر فعالية وأقل كلفة بالاضافة إلى التوجه لاستغلال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وطاقة المياه وكذلك طاقة الحرارة الأرضية ناهيك عن مصادر الطاقة المتاحة الأخرى مثل الطاقة الحيوية..

وفي الحقيقة فإن استخدام الطاقة الكهربائية في تسيير وسائل النقل أصبحت واقعا ملموسا حيث التنافس على انتاج مركبات تعمل بالطاقة الكهربائية أصبح على أشده.

نعم البترول مصدر طاقة رئيسيا تعتمد عليه حركة العالم بجميع دوله وشعوبه وأغلب استخداماته تتمثل في حرقه كوقود. وبسبب الانتاج الكبير والاستهلاك الفاحش فإن النفط سوف ينضب إن عاجلا أو آجلا والكيّس هو من يستخدم عوائد النفط في ايجاد مصادر دخل جديدة ومتجددة تعتمد على المعرفة التي وعت أهميتها دول عديدة لا تملك مقومات وموارد اقتصادية ذات بال ولكن بصدق الحدس وعزيمة التوجه ووضوح الرؤية وتفعيل الثروة البشرية وصرامة القوانين والأنظمة استطاعت دول ذات موارد اقتصادية محدودة أن يصبح كل منها قوة اقتصادية جبارة وذلك مثل اليابان وتايوان وسنغافورة وإسرائيل وذلك بفضل الاعتماد على اقتصاد المعرفة.

البترول أثمن وأغلى من أن يحرق كوقود وذلك لأنه ثروة يجب أن يتم العمل على مد عمره إلى أطول مدة ممكنة وذلك من خلال تصنيعه وتحويله إلى سلع ومنتجات بصورة تدريجية تتوافق مع سرعة التحولات المشهودة نحو الاستغناء عنه كوقود ناهيك عن أن تصنيعه إلى سلع ومنتجات سوف يحقق عوائد أكبر وبكمية استهلاك أقل.

ليس هذا فحسب بل ان تصنيعه سوف يوطن تقنيات ويفتح فرص عمل، ويزيد الدخل ويحقق توطين المعرفة التي تعتبر أساس الاقتصاد القائم على المعرفة وبهذين الجناحين تصنيع البترول وتوطين اقتصاد المعرفة يتحقق أمن الدخل وتعدد مصادره وتعاظمها.

ايضاً لا زال معظم الاقتصاد العالمي يعتمد على نظام الزراعة والصناعة في صنع الثروة ولذلك فليس بغريب أن يكون معظم خبراء الاقتصاد قد أمضوا حياتهم العملية في وضع النظريات حول وسائل المزاحمة في صنع الثروة ولكن في الآونة الأخيرة دخل إلى الميدان منافس شرس للزراعة والصناعة كوسيلة لصنع الثروة يتمثل في نظام ثالث يعتمد على صنع الثروة بوسائل معرفية تفرعت وتراكمت حتى أصبحت المهيمنة على كثير من التوجهات الاقتصادية على اختلاف مسمياتها وتطبيقاتها والتي يتمثل بعض منها في مفاهيم اقتصاد المعرفة، الاقتصاد الجديد، الاقتصاد ما بعد الصناعي، اقتصاد المعلومات، رأس المال البشري، ثقافة المعلومات، التكنولوجيا الرقمية، التجارة الالكترونية، الفجوة الرقمية وغيرها من الأسماء والمصطلحات التي يعج بها عالم اليوم.

ولعل مفهوم اقتصاد المعرفة يعني تحقيق أكبر قدر من القيمة المضافة وهذا بدوره يعني ان المعرفة تشكل مكوناً أساسياً في العملية الانتاجية والتسويقية، ويزداد النمو بزيادة المعرفة.

وقد أحدثت هذه الثورة تغيرات عميقة في علاقة الإنسان مع الزمن والمكان.

هذا وقد وقف الحرس القديم من خبراء الاقتصاد مواقف متباينة من الوافد الجديد تمثل بعضٌ منها في إنكار أهميته والعمل وكأنه غير موجود وكذلك ظلت تعمل بعض الدول وتمثل البعض الآخر في تفحص الوافد الجديد بأدوات غير ملائمة تنم عن عدم الادراك الكامل للظروف والمتغيرات التي ترافقه أو تنبثق عنه.

ولعل السبب في عدم مواكبة النظام الثالث الجديد في صنع الثروة والمتمثل في المعرفة أن المعرفة شيء غير ملموس وان محاولات تعريفها أصبحت متشعبة لدرجة انها شكلت متاهة ليس لها مخرج أمام غير العارفين بها، والمسيّرين لدفتها.

من هذا المنطلق أصبح لزاماً وجود تعريف عملي يساعد على ادراكها وفهم كيف تؤثر التغيرات المعرفية اليوم في صنع ثروة المستقبل.

ولعل من أهم الحقائق التي تميز المعرفة أن:

* المعرفة لا تنقص بكثرة الاستخدام بل هي تزداد وتتجذر نتيجة ذلك.

* المعرفة غير حسية وبالتالي غير ملموسة ولكن يمكن التحكم بها.

* المعرفة ليست خطية حيث يمكن ان تتمخض فكرة صغيرة عن نتائج مذهلة كما حدث عند نشأة شركة yahoo وشركة Fedral express.

* المعرفة مرتبطة بالعلاقات وهذا يعني ان المعرفة تتكامل فلا يمكن لأي جزء من المعرفة ان يكون ذا معنى إلا إذا وضع في سياقه المتكامل الذي يؤدي إلى المعنى.

* المعرفة قابلة للنقل أكثر من أي منتج آخر.

* المعرفة يمكن ان تضغط في رموز أو اسطوانات.

* المعرفة يمكن ان تكون ضمنية أو صريحة.

* من الصعب حبس المعرفة لذلك فهي سهلة الانتشار.

وعلى العموم فإن ندرة المعلومة وجدّتها وأسلوب تطبيقها ونتائجها هي التي تمنحها قيمتها العالية. وهي أيضاً التي تدفع إلى ما يسمى بالتجسس المعرفي وسرقة المعلومات وهي أيضاً ما يميز ويثري الشركات المنتجة لها وهي أيضاً ما يدفع إلى المنافسة والبحث عن الأفضل من خلال البحث والتطوير والابتكار والابداع.

وعلى الرغم من ان أول بدايات اقتصاد المعرفة الحديث قد عرفت منذ أكثر من نصف قرن إلا ان اقتصاد المعرفة بصورته الحالية وبتأثيره المحسوس لم يصبح واقعا ملموسا إلا في العقدين الأخيرين، وبصورة أكثر وضوحاً هذه الأيام ومع ذلك فإننا لا نعرف سوى القليل عن «المعرفة الكامنة وراءه» مع أن تلك المعرفة هي نفط المستقبل إلا انها تفوقه بمميزاتها وسهولة إنتاجها وتراكمها وتكاملها وعدم قابليتها للنضوب فهي تزداد مع زيادة استخدامها وتتراكم. كما أنها نفط غير ملموس وذلك بسبب اننا لا نستطيع أن نعرف أو نقدر كم احتياطيات المعرفة القائمة أو المستقبلية أو كيف تتغير كمية المعرفة التي تستحق أن تعرف وما هي قيمتها.

إن المعرفة اليوم تعتبر أحد الأسس العميقة في بناء اقتصاد المعرفة وتحقيق الثروة الثورية وقد أصبحت من أسرع مكونات التغيير في الاقتصاد والبيئة الاجتماعية.

وإذا أردنا ان نعقد مقارنة أخرى بين اقتصاد المعرفة ، واقتصاد النفط نجد أن طرق استخراج النفط وتخزينه ونقله وتكريره قد طرأت عليها تغييرات طفيفة خلال المدة التي انقضت منذ اكتشافه كقوة محركة للاقتصاد العالمي حتى اليوم وفي المقابل نجد أن أجهزة الحاسب والأقمار الصناعية والهواتف المحمولة والانترنت والتقنيات الرقمية الأخرى قد غزت العالم وأصبحت تتطور تقنياتها بصورة متسارعة على شكل أجيال متوالية خلال مدد زمنية قصيرة جداً يلهث الناس خلف كل جديد منها وأصبحت عوائد إنتاجها وبيعها مهولة ما جعل هذه الثورة المعرفية ذات أثر كبير في تشكيل نمط الحياة المعاصرة وأولياتها في كل المجتمعات سواء أكانت منتجة أم مستهلكة.

إن الاقتصاد المعتمد على المعرفة اقتصاد متجدد يزداد تألقاً مع بزوغ فجر كل يوم جديد ناهيك عن انه بسببها أحدث انقلابا في الأساليب والادارة والتسويق وذلك ان المعرفة تتطلب أن يكون اتخاذ القرار أسرع وأذكى وذلك لأن الظروف أصبحت أشد تعقيداً. وعلى الرغم من كل الدراسات والتحاليل والأبحاث التي تدور حول اقتصاد المعرفة إلا ان تأثير المعرفة في صنع الثروة لم يعط حقه لا في الماضي ولا في الحاضر. ولم تكن مزاياه ومنافعه للقيادات العليا وأصحاب القرار في كثير من الدول خصوصاً النامية منها وذلك بسبب غياب القادرين على ذلك أو بعدهم عن مواقع اتخاذ القرار.

إن حاجة مجتمعنا بدون البترول أكبر بكثير من الموارد الطبيعية الأخرى المتاحة في المملكة وذلك نتيجة طبيعية لما تتمتع به المملكة من مساحة صحراوية شاسعة شحيحة الموارد المائية شديدة الحرارة. ولذلك فإن التفكير بما سوف يؤول إليه الوضع بعد نضوب البترول أو انخفاض الطلب عليه لظهور بدائل عنه يجب أن يكون جدياً ومنذ الآن لأننا نملك الثروة التي تمكننا من زراعة البدائل الاقتصادية المجدية والتي يأتي في مقدمتها اقتصاد المعرفة الذي يتطلب أن نعيد النظر في نظام مؤسساتنا التعليمية والتدريبية لأن تلك المؤسسات سواء أكانت عامة أم عليا هي المعوّل عليها في زرع بذور المعرفة وهي التي تدير الاستثمار في رأس المال البشري الذي هو الدعامة الرئيسية في جميع الفعاليات والحراك البشري الحديث وهذا ما ذهب إليه الاقتصادي «الفريد مارشال» الذي أكد أهمية الاستثمار في رأس المال البشري باعتباره استثماراً وطنياً واعتبره أفضل أنواع رأس المال قيمة لأنه مفتاح تقدم الأمم والشعوب..