أحدث اعتقال رياض سلامة، محافظ مصرف لبنان المركزي السابق، صدمة في الأوساط المالية والسياسية في لبنان.
بعد أكثر من عام من التدقيق المكثف والادعاءات العديدة بسوء السلوك المالي، يتم تحليل القبض على سلامة عن كثب من وجهات نظر متعددة.
ويعتقد البعض أن اعتقاله قد يكون محاولة لصرف الانتباه عن الإخفاقات النظامية داخل القطاع المالي اللبناني، في حين يرى آخرون أن الاعتقال يمثل تطوراً كبيراً، حيث يتبنى كثيرون كلا الرأيين.
وقدم أحد المصرفيين، الذي اختار عدم الكشف عن هويته، تفسيرا دقيقا للوضع أثناء حديثه إلى صحيفة عرب نيوز.
وقال “إن رد فعلي الأولي هو أن الحكومة تبحث عن كبش فداء لتجنب تحمل المسؤولية عن الأزمة المالية”.
ورغم ذلك، فقد اعترف بأن سلامة ليس بريئا تماما.
وأعرب المصرفي عن شكوكه في فعالية القضاء اللبناني في معالجة الجرائم المالية البارزة.
وأضاف أن “القضاء اللبناني يفتقر إلى الحياد، ومحاولاته لإحالة المجرمين إلى العدالة لم تكن فعالة، كما أن افتقار القضاة إلى الخبرة في التحقيقات المالية يشكل دلالة واضحة”.
كما تساءل عن مصداقية النظر إلى الاعتقال باعتباره لفتة تجاه الهيئات الدولية مثل مجموعة العمل المالي وصندوق النقد الدولي.
وقال “لا أعتقد أن هذا سوف يساعد”، في إشارة إلى سمعة لبنان الملطخة بسبب التقاعس عن العمل.
ويعكس قلقه شكوكاً أوسع نطاقاً حول ما إذا كان الاعتقال سيؤدي إلى إصلاحات جوهرية أم أنه سيكون مجرد عمل رمزي.
وفيما يتعلق بثقة المستثمرين، أبدى المصرفي تشاؤمه، وزعم أن الضرر الذي لحق بالنظام المالي في لبنان قد وقع بالفعل، وأن هناك حاجة إلى تغييرات ذات مغزى لضمان التعافي الحقيقي.
وأضاف أن “السياسيين بحاجة إلى تحمل المسؤولية والمضي قدما، حتى لو كان ذلك يعني اتخاذ قرارات صعبة”.
وفي حين أن من المفترض أن يكون البنك المركزي اللبناني منظمة مستقلة، إلا أن المصرفي أكد أن فترة ولاية الحاكم اتسمت بالانشغال بالقرارات السياسية بدلاً من التركيز على الإدارة المالية التي تشكل أهمية حيوية للمؤسسة.
وهذا يثير سؤالا حاسما: هل سلامة هو المسؤول الوحيد عن الاضطرابات المالية في لبنان، أم أنه مجرد عنصر واحد في نظام أكبر بكثير من سوء الإدارة والفساد؟
وبحسب المصرفي فإن الوضع يعكس مشكلة نظامية أوسع نطاقا.
وقال إن “الكلمات البسيطة لوصف هذا هي سوء الإدارة والفساد على أعلى مستوى”، مضيفا: “المفارقة هي أن هذا لم يتوقف حقا”.
ويشير هذا المنظور إلى أنه في حين أن اعتقال سلامة قد يعالج جانبًا واحدًا من الأزمة، فإنه لا يعالج القضايا العميقة الجذور التي ابتليت بها الأنظمة المالية والسياسية في لبنان لسنوات.
جورج كنعان، الرئيس الفخري لجمعية المصرفيين العرب، ردد بعض المشاعر التي عبر عنها المصرفي المجهول، لكنه قدم أيضا وجهة نظر نقدية بشأن سوء السلوك المزعوم لسلامة.
وكان كنعان قد أبدى موقفاً واضحاً من هذه القضية، وقال: “أعتقد أنه يستحق السجن، وأعتقد أنه ارتكب سرقة واضحة”.
وأعرب عن أسفه لأن القضية الأكثر جوهرية المتعلقة بسوء الإدارة المالية، والتي يعتقد أنها غير قابلة للملاحقة القضائية، تطغى عليها تصرفات سلامة الفردية.
وقد قدم مصرفي آخر مجهول الهوية تحليلاً مفصلاً للسياق السياسي المحيط باعتقال سلامة، مقترحاً عدة سيناريوهات محتملة يمكن أن تفسر توقيت وطبيعة هذا الحدث البارز.
وتوقع أن يكون اعتقال سلامة مرتبطا بمناورات سياسية أوسع نطاقا، وتكهن بثلاثة سيناريوهات رئيسية.
أولاً، اقترح المصرفي أن اعتقال سلامة قد يكون جزءًا من صفقة سياسية أكبر، مما قد يجعله كبش فداء للفساد المستشري بين السياسيين اللبنانيين. وقال: “قد يكون اعتقاله جزءًا من صفقة سياسية أوسع نطاقًا”.
وترتكز هذه النظرية على فكرة مفادها أنه من الممكن التضحية بسلامة من أجل تهدئة الغضب الشعبي والضغوط الدولية، وبالتالي حماية شخصيات أخرى أكثر قوة قد تكون مذنبة بنفس القدر أو أكثر.
وأشار المصرفي إلى أن المدعي العام المالي في بيروت علي إبراهيم -الذي يقال إنه من محسوبية رئيس مجلس النواب نبيه بري- تقدم للتو بدعوى احتيال وغسيل أموال ضد سلامة.
وكان بري في يوم من الأيام أحد أبرز حماة سلامة، وهو ما يضيف طبقة من التعقيد إلى الديناميكيات السياسية الحالية.
وهناك سيناريو آخر مقترح وهو أن سلامة ربما شعر بالخطر الشخصي وقرر تسليم نفسه كشكل من أشكال الحفاظ على الذات.
وأشار المصرفي إلى أن سلامة كان قد تم استدعاؤه علناً على مدى الأشهر الثلاثة عشر الماضية، لكنه كان يفشل باستمرار في حضور جلسات الاستماع.
وقد يشير اعتقاله، الذي أحاطت به درجة عالية من السرية وتم دون حضور فريقه القانوني، إلى أنه يشعر بأمان أكبر في السجن.
وأشار إلى أنه “ربما شعر بالخطر بسبب التهديدات، وقرر تسليم نفسه حتى يكون محميًا خلف قضبان الزنزانة”.
السيناريو الثالث هو أن يكون اعتقال سلامة بمثابة مقدمة لتبرئة اسمه في المستقبل.
وبحسب هذا الرأي، ربما يكون الاعتقال جزءاً من استراتيجية لإظهار أن القضاء اللبناني يتخذ إجراءات مهمة ضد شخصيات بارزة.
وإذا أُعلن في نهاية المطاف براءة سلامة، فقد يعني هذا أن القضاء اللبناني أجرى تحقيقاً شاملاً وأن اعتقال سلامة كان خطوة إجرائية وليس اتهاماً له بالذنب.
“وأشار المصرفي إلى أنه تم القبض عليه لتبرئته وإعلان براءته في مرحلة لاحقة”.
وهذا من شأنه أن يشير إلى أن القضاء يبذل جهوداً متضافرة لمعالجة الفساد، ولو بطريقة تؤدي في نهاية المطاف إلى تبرئة سلامة.
وأكد المصرفي أن دور سلامة باعتباره الشخصية المركزية في النظام المالي اللبناني يضيف وزناً كبيراً لهذه السيناريوهات.
وأضاف أن سلامة هو “حافظ الأسرار لكل المعاملات المالية التي حصلت في لبنان”، مشدداً على الدور المحوري الذي لعبه سلامة في إدارة وتنظيم التعاملات المالية.
إن تورطه العميق في النظام المالي ومعرفته بالمعاملات الحساسة تجعله شخصية رئيسية في فهم سوء الإدارة المالية في لبنان، الأمر الذي يزيد من تعقيد المشهد السياسي والقانوني المحيط باعتقاله.
التحليل القانوني: التداعيات والتحديات
وقال جهاد شدياق، وهو محام مقيم في لبنان، إن البلاد “فوجئت بشكل إيجابي” بالاعتقال، لكنه أثار تساؤلات حول تداعياته الأوسع.
وأشار إلى أن محاكمة سلامة في لبنان قد تمنع اتخاذ المزيد من الإجراءات القانونية الدولية بسبب مبدأ عدم جواز المحاكمة على ذات الجرم مرتين.
وشددت شدياق على أهمية هذا التوقيف في إطار الأهلية القضائية اللبنانية، قائلة: “إن اعتقال رياض سلامة يمثل خطوة حاسمة نحو محاسبة الشخصيات البارزة عن الجرائم المالية المزعومة”.
كما تطرق إلى إمكانية تأثير هذا الاعتقال على علاقة لبنان بالهيئات الدولية.
وبحسب المحامي فإن الاعتقال قد يكون خطوة استراتيجية لتلبية التوقعات الدولية وتحسين مكانة لبنان لدى مجموعة العمل المالي وصندوق النقد الدولي.
ولكنه حذر من أن الاعتقال وحده قد لا يؤدي إلى تقدم كبير في مفاوضات لبنان مع هذه الهيئات، نظرا للبطء في التقدم على صعيد الإصلاحات.
وأعرب شدياق عن مخاوفه بشأن التأثير الأوسع لاعتقال سلامة على الفساد وسوء الإدارة المالية في لبنان. وقال: “إن معالجة هذه المشاكل النظامية تتطلب نهجًا أكثر شمولاً واستدامة”، مؤكدًا على الحاجة إلى إجراءات قانونية فعالة وإصلاحات مؤسسية.
وأكد المحامي أنه في حين تشكل هذه القضية سابقة جديدة – نظرًا لعدم مواجهة أي شخصيات رفيعة المستوى أخرى إجراءات قانونية مماثلة من قبل – فإن النتيجة النهائية تظل غير مؤكدة.
وأكد أن هناك مخاوف من أن كشف سلامة عن معلومات حيوية قد يعرض عددا كبيرا من الشخصيات العامة والبارزة للخطر.
وهذا يضيف بعدا إضافيا للقضية، لأن تداعيات ما كشفه قد تكون بعيدة المدى.
وقال شدياق إن “احتمالات مثل هذه الإفصاحات تثير مخاوف كبيرة بشأن استقرار المؤسسات السياسية والمالية في لبنان، وكيف قد تتفاعل لحماية أنفسها من المزيد من التعرض”.
وأكد أمين عبد الكريم، المتخصص في القانون الجنائي، هذا الرد، حيث قال إن اعتقال سلامة كان متأخرا للغاية.
وقال إن “اعتقال رياض سلامة هو عمل قانوني بحت وكان يجب أن يتم منذ سنوات، لكن التدخلات السياسية حالت دون ذلك”.
وأشار عبد الكريم إلى أنه “منذ الأزمة الاقتصادية وثورة 17 تشرين الأول، لاحقت دول أوروبية مثل بلجيكا وفرنسا وألمانيا سلامة بجرائم تتعلق بغسيل الأموال والإثراء غير المشروع”.
ويواجه لبنان الآن لحظة مفصلية، إذ يتعين على قضائه أن يباشر تحقيقاً جدياً في ما وصفه عبد الكريم بـ«أكبر جريمة مالية شهدها لبنان منذ تأسيسه، وربما أكبر جريمة مالية عالمية على مستوى دولة ذات سيادة».
وتتجلى نزاهة هذه العملية في ثقة عبد الكريم في قاضي التحقيق بلال حلاوي، الذي يعتقد أنه مفتاح ضمان مصداقية القضاء.
وتطرق عبد الكريم أيضاً إلى علاقات لبنان المعقدة مع الدول الأجنبية، وبخاصة الدول الأوروبية التي أصدرت مذكرات توقيف بحق سلامة.
وأشار إلى أن هذه الدول من المرجح أن تطالب بتسليم سلامة، وهو ما سيخلق معضلة قانونية للبنان.
وقال المتخصص في القانون وهو يتأمل التحديات الدبلوماسية والقانونية التي تنتظرنا: “لا يمكننا التنبؤ بكيفية تطور العلاقات إذا رفض لبنان تسليم سلامة لمحاكمته في الخارج”.
وفيما يتعلق بإمكانية أن يكون اعتقال سلامة جزءاً من مفاوضات سياسية أوسع، أبدى عبد الكريم حذره.
ورغم إقراره بإمكانية حدوث مثل هذا السيناريو، إلا أنه شكك في أن يقبل سلامة أن يكون كبش الفداء الوحيد للانهيار المالي.
وأضاف أن “هناك العديد من الشخصيات السياسية المتورطة مع سلامة، ولا أعتقد أنه سيكون الضحية الوحيدة”، تاركا المجال أمام المزيد من التطورات السياسية والقانونية المترتبة على الاعتقال.
وفيما يتعلق بإمكانية أن يؤدي اعتقال سلامة إلى تحفيز إصلاحات أوسع نطاقا، أبدى عبد الكريم تفاؤلا حذرا.
وأضاف أن “هذا قد يؤدي إلى تصحيح في طريقة إدارة أموال الدولة”، مشيرا إلى أن الضغوط الدولية قد تدفع لبنان نحو الإصلاحات الضرورية.
ولكنه خفف من حدة هذا التفاؤل من خلال الاعتراف بالجمود السياسي في لبنان، وخاصة الفشل المستمر في انتخاب رئيس جديد، وهو ما قد يؤخر التغيير الحقيقي.
ومن الناحية القانونية، استعرض عبد الكريم التهم الرئيسية الموجهة إلى سلامة، بما في ذلك اختلاس الأموال العامة، وغسيل الأموال، والإثراء غير المشروع.
وحذر من احتمال قيام سلامة بمناورات قانونية لعرقلة التحقيق، مثل حجب وثائق مهمة.
وشدد عبد الكريم على ضرورة إصلاح القضاء، وخاصة إقرار قانون استقلال القضاء، الذي ظل معطلا في البرلمان لسنوات.
وبينما يواجه لبنان هذه التطورات، فإن فعالية القضاء في التعامل مع مثل هذه القضايا البارزة سوف تكون موضع مراقبة عن كثب.
ويمكن أن يكون هذا بمثابة اختبار حاسم لمدى التزام البلاد بمعالجة الفساد واستعادة الثقة العامة في مؤسساتها.
وستكون الأيام المقبلة حاسمة في تحديد ما إذا كان هذا الاعتقال سيؤدي إلى إصلاح حقيقي أم سيكون مجرد لفتة رمزية.