الرقبة، تلك المنطقة الواقعة بين الرأس والجذع، هي من أكثر أجزاء العمود الفقري حركة، وتتألف من سبع فقرات مدعومة بأربطة وعضلات يقع على عاتقها حمل الرأس الذي يشكل 15 في المئة من وزن الجسم.
وتتمفصل فقرات العنق بشكل معقد يسمح للرأس بالتحرك في أكثر من اتجاه، مقارنة مع فقرات العمود الفقري الأخرى، إذ يمكن إرجاع الرأس إلى الوراء أو حنيه إلى الأمام أو إلى اليمين واليسار أو لفه يمنة ويسرة أو حتى تدويره.
وقد تكون الرقبة مصدر آلام أصبحت من الشكاوى الشائعة جداً، وأسباب هذه الآلام كثيرة، ومنها الإجهاد المستمر، والوضع غير المناسب أمام شاشة الكومبيوتر، والجلوس في وجه تيار هوائي، والنوم على مخدة غير مناسبة، أو في وضعية سيئة، أو على البطن، ووجود مشكلة في عظام الرقبة أو في مفاصلها وأعصابها وعضلاتها، أو بكل بساطة نتيجة حني الرقبة المتواصل أثناء استعمال الهاتف المحمول.
لقد أصبح مألوفاً أن نرى الناس في هذه الأيام منشغلين في كتابة الرسائل النصية أو استشارة المواقع الإلكترونية عبر الهاتف المحمول وهم في وضعية حني الرقبة إلى الأمام، غير مبالين بما قد تجلبه لهم هذه الوضعية من أخطار صحية على عمودهم الفقري، خصوصاً على فقرات الرقبة.
إن ليّ الرقبة مرات ومرات ولفترات طويلة على مدار اليوم يشكل صفعة قوية لمكوناتها، خصوصاً لعضلاتها التي تبقى في حال من الشد المستمر ما ينعكس سلباً على صاحبها فيعاني من آلام في الرقبة قد تكون مبرحة أحياناً.
إن حني الرقبة أثناء استخدام الهواتف الذكية يسبب إجهاداً كبيراً للعمود الفقري، خصوصاً فقرات الرقبة التي يزيد تقوسها فتنطلق منها صرخات استغاثة في صورة آلام عنقية سرعان ما تزول مع تعديل الوضعية أو بتحريك الرقبة، لكن مع مرور الوقت، ومع الاستمرار في هذه العادة السيئة، يزداد العبء الواقع على فقرات الرقبة فتحصل مضاعفات خطيرة، مثل تغير انحناء العنق، والتهاب مفاصل الفقرات، وتآكل الغضاريف، واحتكاك الفقرات ببعضها البعض، وانضغاط الأعصاب الحسية التي تمر بين الفقرات، وهذا كله يقود إلى آلام مستمرة في العنق قد لا يمكن السيطرة عليها أحياناً إلا بعملية جراحية.
وبحسب دراسة حديثة قادها كينيث هانسراغ كبير جراحي العمود الفقري في مركز نيويورك لطب الجراحة والتأهيل، فإن الوضعية التي يتخذها مستخدمو الهاتف الجوال أثناء قراءة الرسائل النصية وكتابتها تزيد من الوزن الفعلي للرأس وبالتالي تزيد من الضغط على فقرات العنق. إن وزن رأس الإنسان يبلغ حوالى خمسة كيلوغرامات ونصف الكيلوغرام، أما عندما يحني الشخص رأسه إلى الأمام والأسفل كما الحال لدى استخدام المحمول، فإن ضغط الرأس على الفقرات العنقية يزداد في صورة طردية.
تقول ايمي ديفاني الاستشارية في العلاج الطبيعي في مستشفى ماساتشوستس التابع لجامعة هارفارد “إن كل 10 درجات من انحناءة الرأس إلى الأمام بدءاً من الوضعية الطبيعية تؤدي إلى زيادة الحمل على فقرات الرقبة بمقدار 10 أرطال، وهذا ما يولد إجهاداً على العضلات والأربطة والمفاصل الفقرية والأقراص الموجودة بين فقرات العنق”.
ويؤدي التحديق المستمر في شاشة الهاتف إلى أضرار سلبية تتخطى حدود الرقبة لتصيب أعضاء أخرى في الجسم، فيعاني أصحابها من عوارض شتى، مثل آلام الرأس، وتشوش الذهن، والدوار، والشعور بالغثيان أحياناً، وآلام في الأصابع ومعصم اليد والذراع، وتعب العينين، والاكتئاب، والقلق، وفقدان الإحساس بالواقع، وقلة النوم. وفي هذا الإطار بينت إحصائية على طلاب جامعة ستانفورد الأميركية أن 75 في المئة منهم لا يفارقون جهازهم بل يتركونه معهم في السرير الأمر الذي يجعل الضوء المنبعث من الهاتف يؤثر على إفراز مادة الميلاتونين التي تساعد على النوم.
إن الوضع الطبيعي للرأس هو أن يكون على استقامة واحدة مع العمود الفقري، وكي لا تسمح لهاتفك الذكي بليّ عنقك، حري بك أن تقوم بما يلزم قبل الوقوع في المحظور، والنصائح الآتية مفيدة على هذا الصعيد:
1- تجنّب حني الرأس عند استعمال الهاتف والحفاظ على استقامة الرقبة برفع مستوى الهاتف إلى مستوى العينين، أو بتحريك العين إلى الأسفل من دون حني العنق.
2- تجنب استعمال الهاتف المحمول لفترة طويلة.
3- تفادي الحديث في وضعية مائلة للرأس.
4- تحريك الرأس من اليمين إلى اليسار وبالعكس بضع مرات.
5- ممارسة التمارين الرياضية التي تقوي عضلات الرقبة.
6- إنجاز المهام من خلال تطبيقات يمكن القيام بها على جهاز الكومبيوتر بدلاً من استخدام الهاتف المحمول.
خلاصة القول، يكفي أن ننظر من حولنا لنجد أن الناس يحدقون في هواتفهم الذكية وهم يحنون أعناقهم إلى الأمام والأسفل ما يجعل عضلات الرقبة تعمل في شكل مستمر من أجل حفظ التوازن مع وزن الرأس، وتنتج من هذه الوضعية السيئة انعكاسات صحية وخيمة ليس على الرقبة وحسب، بل إن دراسات أشارت إلى حدوث آثار جانبية تتجاوز حدود الرقبة لتطاول المخ والقلب والرئة وإلى سوء الحالة المزاجية والنفسية. لذلك على كل من يستعمل الهاتف المحمول في وضعية سيئة لساعات طويلة كل يوم أن يصلحها قبل أن تصل الأمور إلى وضع اللاإصلاح، فالوضع الخاطئ يمكن أن يسبب تلفاً في أعصاب الرقبة، وإذا عرفنا بأنه لا توجد وسيلة ممكنة لعلاج يسمح بعودة الأعصاب إلى ما كانت عليه فإننا ندرك عواقب الاستهانة بهذا الأمر.