كاميرات رقمية للمراقبة في الشوارع والمحلات الكبرى والـ «مولات» الواسعة، بنوك معلومات تجمع بيانات لا حصر لها عن الناس تأتي من شبكات الخليوي، رقاقات إلكترونية في كل الأشياء من الهاتف الذكي وصولاً إلى السيارة العادية، ساعة «آبل» مربوطة بالإنترنت، وسوار «فتِ بِت» Fit Bit ينقل حتى ضربات قلبك إلى الـ «ويب»! سيول من الأدوات الرقمية أصبحت متوافرة بكثرة على نطاق واسع ومترابطة مع بعضها بعضاً.
إذا فكرنا في مجريات عيشنا اليومي من تلك الوجهة، نجد أننا نتعرض في كل يوم من أيامنا العادية إلى عشرات الضربات من المراقبة المنظمة وغير المنظمة. يدفعنا ذلك إلى القول إننا بتنا في مجتمع أقل ما يمكن القول في وصفه هو أنه «مجتمع المراقبة». ومهما كانت الحاجة إلى المراقبة، سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، حكومية أو خاصة أو استخباراتية، نحن في حال تعمل فيه التقنية الرقمية على تعزيز سبل السيطرة الاجتماعية، خصوصاً من جانب النظام المسيطر. وبالتالي، يؤدي ذلك الحال إلى تقليص الحريات الفردية بأثر من تلك الحماية المفترضة أو ربما الوهمية أيضاً.
عند تلك النقطة، يبرز السؤال التالي: هل نحن في مرحلة تتسم بسلطة القوة غير المرئية؟ يتناول ذلك السؤال القوة المستمدة ليس من المعرفة (وهي معتبرة سلطة بذاتها)، بل من قوة المراقبة الدائمة من جانب السلطة الحاكمة، خصوصاً قوة فيض المعلومات التي باتت متوافرة عن الجميع. وباستعارة من الأدب الروائي، يمكن القول إن تلك القوة تشبة إلى حد كبير الـ «بان أوبتكون». ويصف مصطلح «بان أوبتكون» مخططاً معمارياً للسجون تخيله المفكر الإنكليزي جيرمي بنثام في أواخر القرن السابع عشر. وتأتي كلمة «بان أوبتكون» بالإنكليزية Panopticon من اجتماع كلمتا «بان» Pan التي تعني «الجميع» وOpticon التي تعني المعاينة المباشرة بالعين. ويستخدم مصطلح «بان أوبتكون» لإعطاء معنى «مراقبة الجميع»، بل يستخدم المصطلح حتى في التقارير الرسمية لمنظمة الـ «سكوتلانديارد» الأمنية المعروفة دولياً.
عودة إلى الـ «بان أوبتكون»
إذاً، استخدم بانثام مصطلح «بان أوبتكون» لوصف سجن تخيله على هيئة مبنى دائري الشكل، وفي وسطه برج بنوافذ كثيرة، وهو يطل على غرف المساجين. ولا تحتوي الغرف سوى على فتحات يدخل منها ضوء الشمس، فيما الأبواب الداخلية تتيح رؤية المساجين في داخلها. إذاً، بتلك الطريقة يكفي أن يوجد شخص في البرج كي يراقب جميع من في السجن.
واستطراداً، تستخدم فكرة ذلك السجن على نطاق أوسع في وصف مبدأ لتنظيم اجتماعي وسياسي صارم يراقب كل من فيه. وكذلك يرى بعض المفكرين أنها تنطبق جيداً على المجتمعات الحديثة التي تفتش دائماً عن كفاءة في الإنتاج، وحرية في العمل الاقتصادي، وأكبر قدر ممكن من الأمن. هل المراقبة الدائمة تحقق تلك الأهداف التي تستعمل بحد ذاتها لتبرير الرقابة الواسعة للمجتمع؟
في المجتمعات الحاضرة، وصل تطبيق تكنولوجيا المراقبة إلى درجة أنها أسست «مجتمع المراقبة» الذي يملك تاريخاً فكرياً طويلاً، لأن أعداداً كبيرة من الفلاسفة خشيت من ظهوره وتحققه.
لندقق في الأمر. تبدو مجتمعاتنا الحالية كأنها «مسكونة» بنوع جديد من الرعب هو رعب المراقبة الدائمة التي يفترض أنها تمنع الجريمة والانحراف. هل نحن في مرحلة «يوتوبيا» Utopie من نوع جديد؟ يصف مصطلح الـ «يوتوبيا» تصوراً فلسفياً عن مدينة فاضله يقطنها أشخاص يمارسون المدنية والمواطنة، ويلتزمون موجبات ذلك من حقوق ومسؤوليات. هناك أيضاً من يفكر في وجود «يوتوبيا» حديثة تجعل الإنسان يمارس شفافية ذاتية تؤدي إلى بناء مجتمع شفاف.
تعتبر تلك الشفافية شرطاً مثالياً لضمان حقوق الإنسان، إذ تدفعه إلى التفكير الصحيح عند الإتيان بأعماله وأفعاله، ما يصل بالناس في خاتمة المطاف إلى مجتمع آمن.
اذاً، هل المراقبة الدائمة المعلنة وغير المعلنة، الذاتية والعامة، تتحقق عبر مراقبة الناس، أكان ذلك بواسطة الكاميرات المزروعة في كل مكان (حتى في الأسِرّة، بفضل كاميرات الهواتف الذكية)، أو عبر مراقبة أفعال الناس التي تظهر في تدويناتهم وتغريداتهم وصورهم على شبكات التواصل الرقمي الاجتماعي.
كيف يمكن وصف تلك الحال المرتبطة بـ «رؤية كل شيء» وكل ما يجري في المجتمع ومدنه ومبانيه وحدائقه (إذا وجدت أصلاً) ومؤسساته وجامعاته، واختصاراً كل الفضاءات العامة والخاصة فيه؟ كيف هو حال ذلك المجتمع المنكشف أمام كل أنواع الرصد حركياً وسلوكياً؟ كيف يكون القول في حال مجتمع مراقب من الأرض والسماء، في ظل وجود من يرصد الأرجل والرؤوس؟
باتت تلك الحال محفزة لعدد من البحوث والدراسات الإنسانية، بهدف تطوير قيادة المجتمع من جانب السلطات الحاكمة. وتأتي أشكال المراقبة المطبقة على المجتمع من العلوم الاجتماعية والاقتصادية، والمؤسسات المختصة، وأخيراً من التقنيات الرقمية أيضاً.
هل تخدم تلك الرقابة الكثيفة الأفراد فعلياً؟ هل تحمل حلاً لمشاكل المجتمع الحديث، أم أنها مجرد خطاب يصعب تحقيقه؟
المصدر : https://wp.me/p70vFa-d9A