مجلة مال واعمال

اللامركزية آلية لزيادة الضبط المركزي

-

هناك تخوف غير مبرر من تطبيق اللامركزية على المستوى الوطني وتعزيز صلاحيات الإدارة المحلية ممثلة في مجالس المناطق والمحافظات والبلديات، وهو أمر يقف حائلاً دون تطوير الإدارة العامة في السعودية بما ينسجم مع متطلبات المرحلة والتغيرات والمستجدات على الساحتين الداخلية الخارجية. وحجة المتخوفين أن اللامركزية وتمكين الإدارة المحلية يُضعف السلطة المركزية واللحمة الوطنية، ويشتت الاجتماع ومدعاة للفرقة والتشرذم، وهي حجة واهية وضعيفة وغير منطقية وغير واقعية، وعلى حد تعبير أحد رموز الإدارة المحلية السعودية الأمير خالد الفيصل ”كلام سخيف”.

وهؤلاء بتفكيرهم المنغلق وضيق الأفق يعجزون عن فهم الواقع وما يكتنفه من مستجدات، ولم يقرأوا التاريخ بتمعن، ويستفيدوا من دروسه، ويجهلون التجربة الثرية والإرث العظيم لمدرسة الوالد المؤسس الملك عبد العزيز في السياسة والإدارة الحكومية. لقد علم – رحمه الله – ببصيرته وحنكته السياسية مبدأ أساسيًّا في الإدارة، وهو الموازنة بين المسؤوليات والصلاحيات، وأن المسؤول المحلي هو الأقرب للحدث، وبالتالي الأولى في صناعة القرار الذي يحقق مصالح المجتمع المحلي. ولذا نجده – رحمه الله – قد منح كل الصلاحيات لأمراء المناطق مع تحميلهم كامل المسؤولية عما يجري في مناطقهم.

إنها الإدارة بالأهداف وليس بالإجراءات الورقية الروتينية التي لا تصنع تنمية، ولا تعالج القضايا، ولا تقدم حلولاً إبداعية محلية. كان معيار الملك عبد العزيز – رحمه الله – أساسه الأداء المتميز لأمير المنطقة، وهو تحقيق رضا الناس، ولذا أُثر عنه أنه يقول للمسؤول المُعَيَّن حديثًا في إحدى المناطق ”لا يجيني أحد يشكي”.

لقد استطاع الملك عبد العزيز من خلال هذا الأسلوب القيادي الرشيق، تفويضَ الصلاحيات لأمراء المناطق لإدارة الشؤون المحلية، بينما ركز اهتمامه على القضايا العليا للوطن والعلاقات الخارجية. إن ما تحقق في مرحلة التأسيس لهذه المملكة المترامية الأطراف من أمن وأمان وقوة ورخاء سببه بعد الله منح الملك عبد العزيز الصلاحيات والسلطات لأمراء المناطق كممثلين له بعلاقة مباشرة في مقابل مسؤولية رعاية مصالح السكان المحليين بتحقيق رضاهم، وهو أمر واسع، ومهمة عظيمة وصعبة للغاية، وليس عملاً بيروقراطيًّا روتينيًّا ورقيًّا، إنما تنفيذ مشاريع وتوفير خدمات وسلع مع شح الموارد في ذلك الوقت.

إن مسؤولية تحقيق رضا الناس كانت تعني المبادرة والتفكير الاستباقي في البحث عن حلول إبداعية في إدارة وتمويل المشاريع المحلية. وحينما يخفق أحد المسؤولين المحليين، ويبرر خطأه بعدم علمه يبادره الملك عبد العزيز بالقول المأثور: ”إذا كنت تدري فتلك مصيبة وإذا لم تكن تدري فالمصيبة أعظم”. هكذا كسب الملك عبد العزيز حب وولاء الناس؛ لأنه ببساطة اقترب منهم عبر تطبيق اللامركزية، وحقق لهم تطلعاتهم واحتياجاتهم كما هم يرونها وليس كما يراها البيروقراطيون في الأجهزة المركزية.

ولأن الهاجس الأمني واستتباب الأمن في ربوع الدولة الفتية كان يحتل أولوية في مرحلة التأسيس عمد الملك عبد العزيز إلى تطبيق اللامركزية كآلية للرقابة والضبط والسيطرة، فاللامركزية تؤدي إلى تضييق نطاق الإشراف، وهو تقليل عدد المراقبين والمشرف عليهم من قبل الإدارة. فعندما تفوض الصلاحيات لعدد معين من المسؤولين في المناطق وحصر المسؤولية وتحديدها، يكون من السهل مراقبتهم ومتابعتهم وتوجيههم بعكس عندما لا تكون هناك إدارات محلية، ويكون على الهيئات المركزية القيام بكل شيء.

وربما تبادر لذهن البعض أن هناك فروعًا للوزارات المركزية يمكن إدارتها بأسلوب اللامركزية بمنحها الصلاحيات الإدارية والمالية، وهذا سيفي بالغرض، إلا أن هذا غير صحيح ألبتة، فشتان بين فروع الوزارات التي تقدم خدماتها على أساس قطاعي وتخطيط من أعلى إلى أسفل ومغرقة في البيروقراطية وتثاقل في صنع القرار وبعيدة عن الواقع المحلي، ومجالس المناطق والمجالس المحلية والبلدية ذات المسؤولية الشمولية (أو هكذا يفترض) التي هي أكثر كفاءة وفاعلية في معالجة القضايا المحلية التي تتصف بدرجة عالية من التعقيد والتداخل، وتتطلب حلولاً محلية إبداعية تكاملية.

لم يعد كافيًا توفير الخدمات العامة، إنما خدمات تستجيب لاحتياجات السكان المحليين وتحقق تطلعاتهم الحالية والمستقبلية. الفكرة الأساسية هنا أن تطبيق اللامركزية سيؤدي إلى الاقتراب أكثر من المواطن، والتعرف على المتغيرات وتوجهات الرأي العام المحلي بوقت كافٍ لاستيعابها والتكيف معها وإدارتها بكفاءة وفاعلية.

لم يعد بالإمكان بل سيكون من المكلف جدًّا التأخر في التوسع في تطبيق اللامركزية بجميع أنواعها السياسية والإدارية والاقتصادية والمالية بحيث تُمكن مجالس المناطق والمجالس المحلية والبلدية من تنفيذ المسؤوليات العظام الملقاة على عاتقها. فهي أمام تحد كبير في إدارة المجتمعات المحلية التي أصبحت أكثر تحضرًا وثقافة ونضجًا، وارتفع سقف توقعاتها كمًّا ونوعًا وجودة. لقد أصبح من الضروري البحث عن أساليب جديدة في صناعة القرار الحكومي تتفق مع روح العصر والمعطيات الجديدة وتستجيب للمستجدات والوقع السريع للمتغيرات. لذا لا يمكن الاستمرار في منح البيروقراطيات المركزية سلطتي التشريع والتنفيذ والتقرير نيابة عن سكان المناطق وهي لا تقوى على تنفيذ مسؤولياتها المركزية المتعددة.

إن القرار الحكومي يتشارك ويتداخل فيه، إضافة إلى الأجهزة المركزية، مجالس المناطق والمحافظات حسب هرمية مكانية، فلكل خدمة أو مشروع مدى تأثير محصور في نطاق جغرافي محدد، وهذا يحتم التعامل معه داخل هذا النطاق ودون تدخل نطاقات أخرى لا تعنيها أو لا تتأثر إيجابًا أو سلبًا بتلك المشاريع أو الخدمات. لذا كان من الضروري صياغة نظام للإدارة المحلية يأخذ في الحسبان توزيع المسؤوليات والأدوار والصلاحيات بين الهيئات المركزية والمحلية.

لقد أصبح تطوير الإدارة المحلية أمرًا ضروريًّا لا يحتمل التأخير، فالمشكلات التي يعانيها المجتمع تعود في المقام الأول إلى ضبابية المسؤولية وتعدد المرجعيات والتعقيدات البيروقراطية. وسيكون من الأجدر في هذا السياق ربط أمراء المناطق بالملك مباشرة ومنح المجالس الاستقلال الإداري والمالي، وأن تكون هي مرجعية الأجهزة الحكومية المحلية في المنطقة. سيقود ذلك – بإذن الله – إلى طفرة تنموية اقتصادية محلية، وسيحقق التنمية المستدامة والمتوازنة، وسيحد من حالة الفساد الإداري والمالي وتعثر المشاريع، وسيعالج الكثير من القضايا والتحديات، التي ما زلنا نبحث لها عن حلول، لكن في المكان والأسلوب الخطأ، ظنًّا أن المركزية تمنح الكفاءة والضبط والسيطرة، وهي أبعد ما تكون عن ذلك جغرافيًّا وموضوعيًّا.

*نقلاً عن صحيفة “الاقتصادية” السعودية.