بقلم: محمد فهد الشوابكه
بينما تتسارع خطى العالم نحو مستقبل يواجه تحديات بيئية معقدة وضغوطًا اقتصادية متزايدة، يظهر الاقتصاد الدائري بوصفه أحد الحلول الاستراتيجية الأكثر شمولًا وابتكارًا لتحقيق التوازن المنشود بين استدامة الموارد والتنمية الاقتصادية. ومن هذا المنطلق، فإن تطبيق هذا النموذج لا يعد مجرد خيار بل أصبح ضرورة حتمية لتعزيز كفاءة استخدام الموارد والحد من التدهور البيئي الذي يهدد رفاهية الأجيال القادمة.
يتسم الاقتصاد الدائري بقدرته على تجاوز النموذج التقليدي القائم على الاستهلاك والإهدار، وذلك من خلال إعادة تعريف دورة الإنتاج بما يضمن بقاء الموارد قيد الاستخدام لأطول فترة ممكنة. وبالتالي، فإن هذا التوجه يعتمد على مبادئ أساسية، مثل إعادة التدوير، والإصلاح، وإعادة التصنيع، والصيانة، ما يتيح استخدام الموارد المتاحة بطريقة مبتكرة وفعّالة. على سبيل المثال، تُظهر الدراسات الحديثة أن الاقتصاد الدائري يمكن أن يوفر تريليونات الدولارات عالميًا، ليس فقط من خلال تقليل الاعتماد على المواد الخام، ولكن أيضًا عبر خفض التكاليف التشغيلية المرتبطة بإدارة النفايات والانبعاثات الكربونية.
وعلاوة على ذلك، فإن النجاح في تطبيق الاقتصاد الدائري يتطلب التكامل بين مختلف القطاعات. ففي قطاع إدارة النفايات، الذي يُعد نموذجًا بارزًا للتحول الدائري، يتم تحويل النفايات إلى مواد خام يُعاد استخدامها في إنتاج منتجات جديدة، مما يسهم في تقليل استنزاف الموارد الطبيعية ويعزز تقنيات الإنتاج المستدامة. فعلى سبيل المثال، بدلاً من طمر النفايات أو حرقها، يتم توجيهها لتصبح موارد قيّمة تدخل في عمليات التصنيع، وهو ما يخلق تأثيرًا مزدوجًا يتمثل في حماية البيئة وخلق فرص اقتصادية مستدامة.
ومع ذلك، لا يمكن تحقيق تحول حقيقي نحو الاقتصاد الدائري دون أن تتبنى الشركات ممارسات إنتاج وتصميم تستند إلى الابتكار والاستدامة. فاليوم، بات من الواضح أن المنتجات التي تُصمم بعناية بحيث يمكن تفكيكها أو إعادة تدويرها بسهولة، تمثل الأساس لنظام اقتصادي دائري ناجح. وعلى سبيل المثال، تعمد بعض الشركات العالمية إلى تصنيع الأجهزة الإلكترونية من مكونات قابلة لإعادة التدوير بالكامل، مما يقلل من تراكم النفايات الإلكترونية التي تعد من أكثر أنواع النفايات نموًا وأثرًا سلبيًا على البيئة.
وفي هذا السياق، يأتي دور الحكومات بوصفها المحرك الرئيسي للتحول، إذ تقع على عاتقها مسؤولية توفير البيئة التشريعية الملائمة لتحفيز الشركات على تبني ممارسات الاقتصاد الدائري. كما أن وضع حوافز ضريبية للشركات التي تلتزم بإعادة التدوير، أو الاستثمار في تطوير البنية التحتية لإدارة الموارد بشكل أكثر كفاءة، يساهم في خلق بيئة تنافسية تُشجع على الابتكار والاستدامة.
لكن، ومع أهمية الشركات والحكومات في تعزيز هذا التحول، يظل المستهلك الحلقة الأهم في سلسلة الاقتصاد الدائري. ذلك أن أنماط استهلاك الأفراد تلعب دورًا محوريًا في تحديد مدى نجاح هذه المنظومة. فالتوجه نحو شراء المنتجات الصديقة للبيئة، ودعم الشركات التي تتبنى مبادئ الاقتصاد الدائري، يمكن أن يخلق ضغطًا إيجابيًا يدفع الأسواق نحو التحول. وليس هذا فحسب، بل إن رفع الوعي لدى المستهلكين بأهمية الاستدامة يسهم في بناء ثقافة مجتمعية تدرك قيمة الموارد وتلتزم بحمايتها.
إضافة إلى ذلك، يمكن للاقتصاد الدائري أن يقدم حلولًا جذرية لبعض التحديات الكبرى التي تواجهها الاقتصادات الناشئة. فمن خلال توفير بدائل مستدامة وفعّالة، يصبح بالإمكان خلق فرص عمل جديدة ترتكز على إعادة التدوير وتصنيع المواد وإدارة الموارد بكفاءة. وفضلًا عن ذلك، فإن اعتماد تقنيات حديثة تعتمد على الاقتصاد الدائري في قطاعات مثل البناء أو الزراعة، يمكن أن يسهم في تحقيق التنمية المتوازنة والحد من الفجوات الاقتصادية.
على الرغم من ذلك، فإن التحول نحو الاقتصاد الدائري لا يخلو من التحديات، حيث يتطلب هذا التحول استثمارات ضخمة في البحث والتطوير لإيجاد حلول مبتكرة، بالإضافة إلى بناء شراكات قوية بين القطاعين العام والخاص. كما أن الحاجة إلى توحيد الجهود على المستوى الدولي تعد أمرًا بالغ الأهمية، لضمان تكييف السياسات الاقتصادية مع متطلبات التحول الدائري ولتعزيز التعاون في مواجهة التحديات البيئية المشتركة.
وفي نهاية المطاف، لا يمكن النظر إلى الاقتصاد الدائري على أنه مجرد أداة اقتصادية، بل هو رؤية شاملة تسعى إلى تحقيق تكامل بين الأبعاد البيئية والاجتماعية والاقتصادية. فهو يمثل نقطة تحول ضرورية نحو مستقبل لا يُقاس فقط بمدى نمو الناتج المحلي الإجمالي، بل بمدى تحقيق الازدهار المستدام. وبهذا المعنى، يمكن للاقتصاد الدائري أن يكون المفتاح لبناء عالم يوازن بين تلبية احتياجات الحاضر وحماية حق الأجيال القادمة في حياة أكثر استقرارًا واستدامة.