مجلة مال واعمال

إسبانيا تقفز إلى الواجهة بعد اليونان

-

ما إن خمدت نار اليونان، أو على الأقل هكذا تبدو الأمور ظاهريًّا حتى الآن، حتى أخذت تطفو على السطح الأخبار السيئة من أن الأوضاع المالية والاقتصادية الإسبانية ربما يصعب وضعها تحت السيطرة، وأن إسبانيا لا محالة سوف تلجأ إلى طلب المساعدة لإنقاذها من الصعوبات المالية التي تواجهها حاليًا. التقديرات الحالية من جانب بعض المراقبين تضع نسبة الدين الإسباني إلى الناتج المحلي عند مستويات أعلى بكثير مما هو معلن رسميًّا، حيث تصل نسبة الدين إلى الناتج في إسبانيا وفقًا لبعض التقارير إلى 90 في المائة. إنقاذ الاقتصاد الإسباني سيكون مهمة صعبة للغاية بالنسبة لأوروبا والعالم، نحن نتحدث عن اقتصاد ميجا هذه المرة، سيحتاج إلى جهد مالي غير تقليدي للتعامل مع أزماته.

من الناحية النظرية يفترض أن الاتحاد الأوروبي قد جَنَّب نحو تريليون يورو لمواجهة المشكلات المالية للدول التي تعاني مديونية ثقيلة، غير أنه من الناحية الفعلية ما تم تجنيبه من هذا المبلغ يمثل مقدارًا أقل بكثير من المستهدف، وهو ما يعني أن سلسلة شاقة من المباحثات تنتظر أوروبا لمواجهة الخطر الإسباني، وهي بالتأكيد ستكون أقسى من تلك التي واجهتها أوروبا في التعامل مع المشكلة اليونانية.

إسبانيا ربما تكون الاقتصاد الرابع الذي يقف في صف حلقة الدومينو التي تحيط بمنطقة اليورو حاليًا بعد اليونان وإيرلندا والبرتغال، وذلك نتيجة لتصاعد مخاطر الانحسار الاقتصادي الأوروبي، التي ستكون إسبانيا وإيطاليا على رأس الدول المتأثرة به. بصفة خاصة تواجه إسبانيا انحسارًا اقتصاديًّا عميقًا، حيث تبلغ معدلات البطالة 23.6 في المائة، وهي من أعلى معدلات البطالة في أوروبا، بينما يصل معدل البطالة إلى نحو 50 في المائة بين العمال صغار السن. إسبانيا أيضًا تطبق حاليًا خطة تقشف تعد الأقسى في أوروبا، حيث تسعى إلى خفض نسبة عجز الميزانية إلى ناتجها المحلي الإجمالي على نحو حاد، وهو ما ترتب عليه تراجع في معدلات النمو في الناتج، حيث حققت إسبانيا نموًّا سالبًا في ربعي السنة الماضيين.

مشكلة إسبانيا الملحة تكمن في نظامها المالي، حيث تواجه البنوك الأسبانية مخاطر حادة، راجعة إلى تدهور أداء القطاع العقاري، ورغبة في الحد من احتمالات الإفلاس التي يمكن أن تواجهها البنوك، نتيجة لذلك طلب البنك المركزي الإسباني من البنوك زيادة مخصصات احتياطياتها الرأسمالية بـ50 مليار يورو لهذا العام، إلا أنه بأخذ معدلات تراجع أسعار المساكن حاليًا في إسبانيا، فقد أصبح المؤكد أن البنك المركزي سيطلب من البنوك الاحتفاظ بمزيد من الاحتياطيات في المستقبل.

تتمثل المشكلة في أن تحسن أوضاع البنوك الإسبانية يقتضي حدوث تحسن في النمو الاقتصادي الإسباني، وأن ينتعش قطاع المساكن في إسبانيا، وهذا أمر غير ممكن حاليًا، فليس من المتوقع انعكاس معدلات النمو الاقتصادي الإسباني في الأجل القريب، بالعكس السيناريو المرشح حاليًا هو تراجع النمو وسوء الأوضاع الاقتصادية، حيث يتوقع البنك المركزي الإسباني أن يتراجع معدل النمو الاقتصادي بنحو 2 في المائة هذا العام، بينما يعيش قطاع المساكن في إسبانيا واحدة من أسوأ أزماته على الإطلاق، حيث يواجه سوق العقار الإسباني ضغوطًا انحسارية كبيرة، إذ يقدر حاليًا تراجع هذا السوق بنسبة 35 في المائة لهذا العام، وهو ما قد يتسبب في المزيد من المشكلات للقطاع المالي الذي تعاني نسبة كبيرة من البنوك فيه ضعفَ القاعدة الرأسمالية أصلاًَ، وهو ما سيستدعي ضرورة رفع القاعدة الرأسمالية للكثير من البنوك الإسبانية للحيلولة دون انتشار موجات الإفلاس بين البنوك.

لقد أدت الخسائر المتوالية للبنوك الإسبانية إلى انتهاء موارد صندوق ضمان الودائع الإسباني تقريبًا، وهو ما يقتضي من الحكومة الإسبانية توجيه المزيد من الموارد المالية لتعويض النقص في موارد الصندوق، في الوقت الذي لا تستطيع الحكومة أن تقوم بذلك، خصوصًا أنها مقدمة على تطبيق برنامج للتقشف الاقتصادي.

تشير التقارير الواردة من إسبانيا إلى أن السندات المغطاة بالقروض العقارية أداؤها سيئ، وذلك بسبب تراجع أداء البنوك المصدرة لهذه السندات من جانب وتراجع أسعار المساكن من جانب آخر، ومن المتوقع أن يسوء أداء هذه الأوراق المالية بصورة أكبر مع تعاظم المشكلات الاقتصادية في جانبي النمو والبطالة، مما يرفع من معدلات التوقف عن سداد القروض العقارية، وحاليًا تضطر البنوك إلى مواجهة حالات التوقف عن السداد، إما من خلال تعديل القروض أو باستبدالها أو من خلال قيام البنوك بإعادة الشراء لهذه المساكن، ومما يعقد الوضع أن أسعار المساكن المسجلة لهذه السندات مرتفعة جدًّا مقارنة بالوضع الحقيقي في السوق، وعندما تتم عمليات إعادة الشراء بواسطة البنوك فإنها تتم أيضًا بأسعار مبالغ فيها نظرًا للوضع الاحتكاري في سوق الرهن العقاري، الذي يسمح لتلك المؤسسات بتبادل هذه المساكن فيما بينها بأسعار مرتفعة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه إعادة تدوير مثل هذه الأصول في ميزانيات البنوك لتفادي تسجيل خسائر أكثر من اللازم إذا ما سجلت هذه الأصول بأسعارها الحقيقية.

البنوك الإسبانية تواجه أيضًا حالة نقص حاد في السيولة، حيث يتزايد معدل اقتراضها من البنك المركزي الأوروبي على نحو واضح. فعندما أعلن البنك المركزي الأوروبي عن عمليات إعادة التمويل طويل الأجل LTRO للقطاع المالي الأوروبي، كانت البنوك الإسبانية في طليعة البنوك المقترضة، حيث اقترضت نحو 316 مليار يورو في آذار (مارس) الماضي، مقارنة بنحو 170 مليار يورو في شباط (فبراير)، أي نحو 28 في المائة من إجمالي الاقتراض للبنوك الأوروبية مجتمعة، وهو ما يعكس حقيقة أن نوافذ السيولة أمام البنوك الإسبانية خارج المنافذ الرسمية شبه مغلقة تقريبًا.

من ناحية أخرى، فقد أصبح من الواضح أن العديد من البنوك الإسبانية لم يعد يملك رأس المال الكافي لامتصاص المزيد من خسائر التوقف عن السداد في القطاع العقاري، وأن حجم الأصول المسمومة في قائمة ميزانيات البنوك بلغ مستويات حرجة حاليًا، حيث قد يتطلب الأمر أن تتولى الحكومة الإسبانية إنشاء بنك سيئ Bad Bank، والبنك السيئ هو بنك تقوم الحكومة بإنشائه بصورة مؤقتة ليتولى مهمة شراء هذه الأصول المسمومة من البنوك وتحسين الصورة العامة لميزانياتها، غير أنه من المتوقع أن عملية تحويل هذه الأصول المسمومة إلى البنك السيئ ستتم بلا شك بخصم كبير، وهي عملية ستكون مؤلمة للغاية للكثير من البنوك الإسبانية، من ناحية، ومكلفة جدًّا بالنسبة للحكومة الإسبانية من ناحية أخرى.

هذا القلق المتصاعد حول إسبانيا ترتبت عليه سيادة نوع من الذعر في الأسواق، فقد تراجعت الأسهم الإسبانية بصورة حادة مدفوعة بأسعار أسهم البنوك، كما انتقلت الموجة إلى باقي الأسواق الأوروبية. من ناحية أخرى، هناك مقاومة من المقرضين لشراء السندات الإسبانية إلا عند مستويات مرتفعة للعائد تصل حاليًا إلى نحو 7 في المائة، ومن الناحية الفنية عادة ما ينظر إلى معدل فائدة على السندات بنسبة 7 في المائة على أنه معدل غير مستدام لتمويل آمن للعجز، ولذلك تتزايد تكلفة التأمين على الدين الإسباني ضد تصاعد مخاطر التوقف عن السداد، فقد اتسع هامش التأمين على السندات استحقاق خمس سنوات إلى أكثر من 500 نقطة أساس، أي أن تكلفة التأمين لكل عشرة ملايين دولار من الدين الإسباني أصبحت تفوق النصف مليون دولار حاليًا.

في وسط كل هذا الاضطراب المالي تتزايد مودعات البنوك الأوروبية في البنك المركزي الأوروبي بدلاً من توجيهها نحو الاستثمار في سندات الديون للدول المدينة، كما تتصاعد الثقة بالسندات الأمريكية على الرغم من العجز المستمر في الميزانية. غير أن الآمال أصبحت معقودة الآن على قيام صندوق النقد الدولي بتدبير موارد مالية استثنائية يمكن توجيهها لحماية إسبانيا وغيرها من الدول المدينة في أوروبا، ووفقًا للمصادر فإنه يفترض أن يخصص صندوق النقد الدولي ما بين 400 إلى 500 مليار دولار لهذا الغرض، ولكن هناك شك في قدرة الصندوق على تدبير هذا المبلغ من الناحية الفعلية. ففي أول رد فعل لتصاعد المخاطر الإسبانية أعلنت اليابان أنها ستقدم 60 مليار دولار فقط كتسهيلات لصندوق النقد الدولي لدعم الموارد المالية الدولية لمواجهة الأزمة من خلال مساعدة أوروبا، وللتأكد من أن أزمة الديون الأوروبية لن تنتشر.

القلق حول الحالة الإسبانية يتصاعد يومًا بعد يوم، في ظل الاعتقاد بأن المنهج الأوروبي في التعامل مع أزمات الدول المدينة ذات الحجم الصغير نسبيًّا سار على نحو يسير في الماضي، إلا أن الحالة الإسبانية مختلفة، فهي أكبر من أن يتم إنقاذها من خلال الجهود المالية الأوروبية فقط، وأنها إذا ما انطلقت، لا قدر الله، سوف تقف حجر عثرة أمام انتعاش النشاط الاقتصادي العالمي.

*نقلا عن الاقتصادية