مبادرات توطين الوظائف السابقة في المملكة وُوجهت بممانعة كبيرة من قِبل القطاع الخاص، وذلك تمسكاً من المنتمين إلى هذا القطاع بالفوائد والمصالح المادية التي يجنونها من خلال الاعتماد على العمالة الأجنبية، وما تهيئه لهم أنظمة العمل من قدرة على تحقيق ريع كبير جداً بالاستفادة من نظام الكفالة الذي يصعب عليهم تحقيقه فيما لو تم الاعتماد على العمالة الوطنية. هذه الممانعة لم تأخذ في الحسبان النتائج السلبية التي يمكن أن تؤثر في الاقتصاد والمجتمع، وبالتالي كانت معتمدة على تجنُّب الخسائر على المستوى الفردي، دون اعتبار للتأثيرات السلبية في الاقتصاد والمجتمع ككل. يوماً بعد يوم يترسخ مفهوم الاعتماد على العمالة الأجنبية وكأنه أصبح واقعاً لا يمكن الخلاص منه، بسبب قدرة أفراد القطاع الخاص على تغيير المعادلات والتوازنات، وفرض رؤيتهم المحدودة الفوائد على السياسة العامة المتعلقة بالعمل.
فكرة أن القطاع الخاص الذي يستوعب أكثر من ثمانية ملايين عامل أجنبي لم يستطع أن يستوعب ما لا يزيد على ١.٥ مليون مواطن، غير قابلة للتصديق. وزارة العمل على مدى عقد من الزمن، ومن قبلها مجلس القوى العاملة، لم يتمكنا من فرض توطين الوظائف على أرض الواقع. حتى السياسة الحالية التي تتبعها وزارة العمل، التي أقل ما يمكن وصفها بالسياسة الناعمة في التعامل مع ملف توطين الوظائف، تواجه الآن بمعارضة شديدة من كثير من رجال الأعمال، على الرغم من أنها من خلال برنامج نطاقات تعطي الفرصة لكل صاحب عمل للتكيف مع معدلات توطين الوظائف في القطاع الذي يعمل فيه، وليس مع معدلات مستهدفة، كما كان في السابق. بمعنى أنه ما دامت هناك مؤسسات في هذا القطاع استطاعت التوصل إلى هذه المعدلات، فإنه يمكن للبقية الآخرين تحقيق هذه المعدلات إذا ما وضعوا الشروط والبيئة اللازمة لذلك.
من خلال الحديث مع عدد من رجال الأعمال، تجد أن هناك تناقضاً كبيراً في مواقفهم، يدل عدم وجود مسوغات لمعارضتهم لبرنامج نطاقات. ففي حين يعارض أو يقاوم بعض رجال الأعمال فكرة الحد من العمالة الأجنبية وتوطين الوظائف، على الرغم من أهمية ذلك لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وتحقيق أهداف التنمية الاجتماعية، تجد رجال الأعمال أنفسهم هم أكثر الناس معارضة لفكرة الاستثمار الأجنبي، ومبدأ إعطاء المستثمر الأجنبي الحق في الاستثمار، من منطلق أن أبناء الوطن هم أكثر الناس أحقية في الاستفادة من الفرص الاستثمارية في البلد. بالطبع هناك مَن سيقول إن معارضتهم للاستثمار الأجنبي تنبع من طريقة تطبيقه خلال الفترة السابقة، بفتح الباب على مصراعيه للأجانب للاستثمار دون اعتبار للقيمة المضافة لذلك على الاقتصاد، الأمر نفسه ينطبق على التعداد الكبير للعمالة الأجنبية التي تستنزف الكثير من مقدرات الوطن، وتحرم المواطن من فرص المساهمة في بناء وطنه.
المبادرات التي تقوم بها وزارة العمل حالياً سيتم تقييمها من خلال النتائج التي سيتم التوصل إليها، ومن خلال تحقيقها أهدافها المتمثلة في خفض نسبة البطالة. ويحسب لوزارة العمل أنها خلال تبنيها برنامج نطاقات والبرامج الأخرى المرادفة له، انتهجت منهجاً مرحلياً، وتواصلت مع المجتمع، سواءً الأفراد أو قطاع الأعمال، لفترة كافية قبل وضع هذه البرامج موضع التنفيذ، بما يهيئ لقطاع الأعمال خصوصاً فرصة التكيُّف مع متطلبات هذه المبادرة. المطلوب الآن ألا تعمل وزارة العمل وحدها لوضع هذه المبادرة موضع التنفيذ، بل أن تعمل بالتعاون مع الجهات الحكومية الأخرى من خلال استخدام مؤشرات الإنجاز في برنامج نطاقات شرطاً للاستفادة من الخدمات التي تقدمها الدولة. من ذلك، الاستفادة من القروض الميسرة، أو الأراضي التي تمنحها الدولة لقطاع الأعمال لإقامة المشاريع الصناعية، أو ترسية المشاريع على الشركات التي تقع في النطاقات العليا فقط.
الجهات الحكومية الأخرى يمكن أن يكون لها دور في دعم مبادرات العمل من خلال تهيئة البيئة المناسبة لتعزيز الإنتاجية والمنافسة العادلة وزيادة فرص الاستثمار. وزارة التجارة والصناعة دورها محوري في هذا الإطار، من خلال محاربتها التستر، وضمان المنافسة الكاملة في السوق بما يحدّ من آثار التكيُّف في الأسعار الناتج من ارتفاع تكاليف توطين الوظائف في بعض القطاعات. هيئة الاستثمار سيكون دورها محورياً أيضاً في وضع مبادرات وزارة العمل لتوطين الوظائف على سلم أولوياتها في إطار تهيئة بيئة استثمارية جاذبة للاستثمارات، وبما يكفل زيادة التوظف للمواطنين. وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي والجامعات يجب أن تشترك أيضاً في تنفيذ هذه المبادرات من خلال تهيئة الزخم الثقافي والمعرفي اللازم لدعم المبادرة، كما يجب أن يكون تنفيذ هذه المبادرة على سلم أولويات الجهات الأمنية وجهات الرقابة المالية والإدارية.
وأخيراً، يجب أن نعلم أنه لن تكون هناك تنمية حقيقية دون وجود توازن في عملية المساهمة والاستفادة من هذه التنمية بين القطاع الخاص والمواطن الذي يجب أن يمثل المدخل الرئيس في العملية الإنتاجية. ودون تحقيق ذلك، ستكون هناك تنمية غير متوازنة تمشي على قدم واحدة والأخرى مبتورة.
المصدر : https://wp.me/p70vFa-2RB