في زمنٍ تتآكل فيه التفاصيل، وتُفرّغ الحياة من معناها الثقافي لصالح الاستهلاك السريع، يظهر رجلٌ بسيط الملامح، عميق الرؤية، يُدعى عواد العبادي، ليؤسس ما يمكن تسميته بـ”ثورة هادئة” في سبيل حفظ الذاكرة الوطنية. لم يكن مشروعه مجرد متجر تراثي، بل صرح شعبي ثقافي، أعاد تعريف العلاقة بين الإنسان وهويته، بين المدينة وجذورها، بين الحداثة والماضي.
المداريس ستور… ليس مجرد دكان
ما إن تخطو بوابة “المداريس ستور”، حتى تشعر أنك لست في محل بيع، بل في رحلة حسية نحو الذاكرة الجماعية. تتناثر حولك أدوات فلاحة، وسروج خيل، وقرب ماء، وأزياء بدوية وأخرى فلاحية، بينما تفوح رائحة خبز الشراك والقهوة السمراء الثقيلة، وكأن التراب الأردني نفسه يتحدث من الجدران.
لكنّ السرّ الحقيقي لا يكمن في المعروضات، بل في الفكرة: تحويل المتجر إلى متحف حيّ نابض بالوجدان الشعبي، حيث الزبون ليس مستهلكًا، بل شاهدًا ومشاركًا وحاملًا لسيرة المكان.
الرجل الذي أعاد الاعتبار للبساطة
عواد العبادي، ابن البادية، لم يأتِ من خلفية أكاديمية متخصصة في الأنثروبولوجيا أو دراسات التراث. جاء من الأرض، من الخيمة، من السيرة المحكية، من دفاتر الذاكرة التي تُكتب بالصوت والملمس والنكهة. ما فعله هو تحويل خبرته الشعبية الفطرية إلى مشروع مدروس باجتهاد ذاتي، يتقاطع فيه البعد التجاري بالبعد التربوي، ليشكل مساحة حوار بين الأجيال، وبين المدينة والريف.
هوية تُباع لكن لا تُشترى
في مشروعه، يُعيد العبادي تعريف معنى “التسويق”. هو لا يبيع قطعة تراثية لتوضع في رف أنيق، بل يبيع فكرة، ذاكرة، إحساسًا دفينًا بالانتماء. في كل قطعة من المداريس، توجد رواية غائبة، حنين مستتر، وحكمة مسنٍ تختبئ بين التفاصيل.
هو لا يروّج لتراث “فولكلوري جامد”، بل لتراث حيّ قادر على التطور، قادر على إعادة إنتاج نفسه في وجه اجتياح العولمة.
المتجر الذي تحوّل إلى مؤسسة ثقافية شعبية
ما بدأ كجهد فردي، تحوّل تدريجيًا إلى معلَم ثقافي غير رسمي. تستقبله الوفود، يزوره السياح، وتكرّمه المؤسسات. لكنه بقي محافظًا على روحه الشعبية، بعيدًا عن التصنّع والتلميع. وها هو اليوم يحلم بتحويل المداريس إلى متحف مفتوح، إلى قرية تراثية تعليمية، إلى منصة تفاعلية تعيد للتراث الأردني هيبته وامتداده الطبيعي.
في زمن السرعة… رجل يسير عكس التيار
عواد العبادي ليس فقط حارس تراث، بل رجل يسير عكس التيار العالمي. بينما تركض الأسواق نحو الحداثة والتجديد القسري، هو يُبطئ الخطى عمدًا، ليُعلّمنا كيف نرى في الجميد حكمة، وفي الطاحونة ذاكرة، وفي الشماغ سردية كرامة.
في كل ما يفعل، لا يبحث عن شهرة أو مال، بل عن أثر. عن أن يترك شيئًا لأولاده، ولأبناء وطنه، يربطهم بأرضهم وهويتهم وتاريخهم، قبل أن يبتلعهم الزمن الإلكتروني المعقم.
—
كلمة أخيرة
يقف عواد العبادي بشموخ، كمزارع يحفر في التراب، لكنه يزرع في الوعي. مشروعه ليس حنينًا إلى الماضي، بل مقاومة ناعمة من أجل المستقبل. المداريس ستور ليست مجرّد فكرة، بل حركة، وصاحبها ليس تاجرًا، بل فيلسوف شعبي بصوتٍ بدويّ أصيل.


