في عالمٍ يعجّ بالمنتجات والنسخ المتكررة، تبرز القلة ممن يختارون أن يعيدوا تعريف التصميم بوصفه فعلًا إنسانيًا قبل أن يكون مهنة. ومن بين هذه القلة، تقف رؤى القرشي، المصممة الأردنية التي تنسج من الخشب والألوان والرموز مشروعًا بصريًا لا يسعى إلى الزينة، بل إلى إحياء الذاكرة، واستعادة الجذور، وتمكين الناس من التعبير عن أنفسهم من خلال الحرفة.
من الفن إلى الرسالة: مسار يتجاوز التخصص
حاصلة على شهادة البكالوريوس في الفنون البصرية / التصميم الداخلي من الجامعة الأردنية، لكن رؤى لم تتوقف عند حدود القاعة الأكاديمية، بل مضت لتصنع مسارًا خاصًا بها، يتقاطع فيه التصميم مع الحرفة، والتراث مع التقنية، والفن مع التمكين المجتمعي.
تُجيد أدوات التصميم الرقمي باحتراف (AutoCAD، SketchUp، 3ds Max)، وتمارس الرسم والتصوير والنحت، لكنها لا تنفصل لحظة عن المادة، عن الخشب، عن الملمس، عن اليد العاملة. وهذا ما يميزها: مصممة تدمج العقل الحرفي بالحس الفني، والرؤية الثقافية بالذوق المعاصر.
“كوميكاياه”: مشروع يعيد تعريف الهوية
في عام 2025، أطلقت رؤى مبادرتها الإبداعية “Komikayah”، وهو مشروع تصميمي فريد يستلهم الزخارف العربية ويعيد تشكيلها باستخدام تقنية النجارة اليابانية الدقيقة (كوميكو). ليس مجرد دمج شكلي بين ثقافتين، بل بيان بصري جريء عن إمكانية التلاقي بين الدقة الشرقية والروح العربية، بين التقنيات القديمة والأسئلة الجديدة.
عبر “كوميكاياه”، صمّمت رؤى منتجات يدوية، وبطاقات مرسومة بالألوان المائية، ومجسمات تجمع الشكل بالرمز، وشاركت بها في معارض مجتمعية مثل “سوق جارا”، حيث أصبح التصميم وسيلة تواصل مباشر مع الناس، لا مجرد منتج يُعرض على منصة مغلقة.
الحرفة كأداة تمكين
لم يكن التصميم بالنسبة لرؤى هدفًا فرديًا أو مسارًا شخصيًا فقط، بل وسيلة للتمكين الجمعي. لذلك تحوّلت إلى مدربة معتمدة (TOT)، وصمّمت برامج وورشات في التصميم المستدام، والتعبير الإبداعي، والحرف اليدوية، استهدفت بها النساء والشباب في المناطق الريفية، خصوصًا في الأغوار والأرياف. ما قدمته لم يكن تدريبًا على أدوات، بل تحفيزًا على استعادة الصوت، والقدرة على التعبير، والاعتزاز بالهوية.
بين التقنية والجذور: تصميم له عمق
من خلال عملها في مختبرات التصنيع الرقمي (C-Hub / iDare)، أتقنت رؤى أدوات المستقبل: الليزر، الطباعة ثلاثية الأبعاد، النماذج الرقمية، لكنها استخدمتها دومًا في سبيل الحفاظ على الجمالية الأصيلة للمواد الطبيعية. كل قطعة تصممها تحمل أثر اليد، ودفء الخشب، ولمسة من المكان الذي جاءت منه.
فلسفة بصرية… لا مشروع عابر
رؤى القرشي ليست فقط مصممة بارعة، بل صاحبة رؤية بصريّة متكاملة. في كل مشروع تقدّمه، هناك سؤال عن الهوية، عن الجمال، عن المجتمع. في كل ورشة تديرها، هناك قناعة بأن الفن ليس ترفًا، بل حق، والحرفة ليست ماضيًا، بل مستقبلٌ يمكن إعادة بنائه بالأصابع والخيال.
تتقن رؤى لغات التصميم، لكنها لا تنسى لغتها الخاصة: اللغة التي تربط الناس بما يصنعونه، وتمنح الأشياء أرواحًا ناطقة بقصصنا وهويتنا الجماعية.


